إعلامتاريخرؤى وأفكار

من خيرو الشهلة إلى “تاج الحمّال” عن الدراما والتوثيق التاريخي والأبطال الشعبيين

في أواخر الخمسينات، تلقى المجاهد خيرو النجار الشهير بـ خيرو الشهلة كتاباً من مدير المتحف الحربي معنوناً باسم “أرملة المرحوم خيرو الشهلة” وسُلّم الكتاب إلى السيّد خيرو نفسه، وفضّ الكتاب فوجد فيه ما يلي: ” إلى أرملة المرحوم خيرو الشهلة … تحية طيبة وبعد، يرجى إرسال مسدس المرحوم خيرو لوضعه في المتحف الحربي وشكراً” وباعتبار أنه لا يعرف الكتابة، فقد كلّف أحد معارفه بكتابة الجواب على تلك الرسالة، إذ كان جوابه” السيد مدير المتحف الحربي، تحية طيبة، إنني لا أزال على قيد الحياة، وإن مسدّسي قد بعته وصرفت قيمته على إطعام أولادي، شاكراً لكم اهتمامكم بمجاهديكم … خيرو الشهلة”

خيرو الشهلة

كان خيرو الشهلة من أبرز شباب ثورة حمص ضد الفرنسيين في العشرينات والثلاثينات وحتى الاستقلال، ولعل أبرز ما قام من أعمال جليلة هو أن قام عام 1926 بقتل متصّرف حمص الذي كان سبباً مباشراً في جور الفرنسيين على أهالي المدينة، و كان المحرض الأبرز لإعدام عدد من خيرة شباب حمص من ضمنهم شقيق خيرو نفسه. أقدم الشهلة على قتل المتصرّف آنذاك، وكانت تلك الحادثة فاتحة لانضمامه لخلايا الثورة في حمص، ليكون واحداً من منتسبي الخلايا السرية التي كانت تقاوم فرنسا وعملاؤها آنذاك.

مات خيرو الشهلة بعد تلك الرسالة التي وصلته بسنوات، وكان كل من دبّ على أرض حمص من جيله والجيل الذي تلاه يعرفون ما قدّم هو ورفاقه أثناء الثورة السورية الكبرى وما تلاها من نضال وكفاح ضد المستعمرين الفرنسيين، ولمّا مات كان في جنازته سبعة عشر شخصاً فقط !

رجال من بلدي

كنت قد قرأت هذه القصة في أوراق جدي الذي أحمل اسمه قاسم الشاغوري. وعدت لأتذكرها وأطالعها أثناء متابعتي لمسلسل “تاج” الذي عرض مؤخراً، والذي يروي قصة بطل شعبي أسماه المؤلف “تاج الحمال” وبنى له سرديّة دارت حولها أحداث المسلسل الشيّق إلى جانب ثلة من الشباب المناضلين المنتمين لتنظيم القمصان الحديدية، من بينهم “سليم” الصحفي المغامر المقرّب من الكتلة الوطنية ومن المجاهدين آنذاك.

قاسم الشاغوري

كان جدي صحفياً ومراسلاً لعدة صحف، وكان من أنصار الكتلة الوطنية في العشرينات والثلاثينات، وعندما تحولّت الكتلة إلى “الحزب الوطني” دعي للانتساب إلى الحزب العتيد فاعتذر عن الانضمام  لأنه بحسب أوراقه؛ كان يعتقد أنه إذا كان الواجب يحتم عليه الانخراط بالعمل الوطني، فللسياسة أهلها وتحتاج إلى موهبة وكفاءة وعلم كان يعتقد أنه لا يمتلكها!  وفي سياق عمله الوطني كان عضواً في جمعية سرية ذات عدة خلايا من الشباب، وكان لهم تنظيمهم وقَسَمهم الخاص ومقراً كانوا يستخدمونه للاجتماعات، وكانوا يصدرون المناشير ويوزعوها على المحال والحوانيت، بينما كان زملاؤهم يقومون بأعمال المقاومة ضد المحتل، وكانوا يحملون ميداليات خاصة يعلقونها على صدورهم.

نقل جدّي خلال نشاطه الصحفي أخباراً كثيرة عن ثورة حمص وأحوالها، كما جمع عشرات القصص مما قرأ وسمع وشاهد ومما عمل أثناء نشاطه وعمله الوطني، وبقي يكتب عن الثورات العديدة التي قامت ضد الفرنسيين في صباه وشبابه، وأرّخها وكتب عنها الكثير بعد الاستقلال في مختلف الجرائد والمجلات الوطنية، وكان بعد تقاعده حريصاً على جمع تلك القصص في كتاب صدر عام 1983 تحت عنوان “رجال من بلدي” إذ كان يخشى أن تنسى الناس أولئك الأبطال الذين كانوا السبب الحقيقي في الاستقلال، والشعلة التي وقفت في وجه المستعمرين.

تقاطعت شخصية “الصحفي سليم” بشكل خاص مع شخصية جدّي بشكل كبير، وتشابهت قصص أبطال المسلسل “تاج – الصابوني – أبو عامر – صبحي – أخت تاج وبناتها – رياض …الخ”، مع قصص كنت قد قرأت ما شابهها في “رجال من بلدي”، وقد حمل المسلسل في حلقته النهائية رسائل جعلتني أقاطع وأقارن تلك القصص بعضها ببعض فمثلما كان تاج كان خيرو الشهلة، ومثلما كان الصابوني كان نظير النشيواتي، مثلما كان أبو عامر كان هناك نديم الوفائي، ومثلما كانت أخت تاج وبناتها كانت أم خيرو وأخت نظير …الخ

رجال من بلدي
رجال من بلدي

أبطالٌ شعبيين يقاومون الاحتلال

لقد ثار الشعب السوري في مناطق عديدة في وجه الفرنسيين بما يزيد عن 35 ثورة لعل أبرز من وثقها ووثق رجالاتها أدهم آل جندي في كتابه “تاريخ الثورات السورية” في الستينيات، إضافة إلى تجارب عديدة قام بها كتّاب مغامرون محليّون وكتاب وطنيين غيورين، ومما لا شك فيه أن كاتب مسلسل “تاج” الأستاذ عمر أبو سعدة قد بذل مجهوداً كبيراً في نسج قصة هذا المسلسل ولا بد أنه بحث في مصادر كثيرة وقراً وثائق وطالع كتباً عديدة وجعل لها حبكة درامية وصفها البعض بالمبالغات وحاول آخرون أن يتصيدوا بها أخطاء تتعلق تارة بالديكور وتارة في سياقات سياسية.

وأنا إذ أروي هذه المقارنات والتقاطعات لا أقصد أن قصص “رجال من بلدي” هي قصص المسلسل، بل أعتقد أن “رجال من بلدي” ليس من بين المصادر التي بحث بها الكاتب لأن الكتاب لم يستطع الخروج من محليّته في ذاكرة مدينة حمص، على الرغم من وصوله إلى بعض المكتبات الوطنية والجامعية الكبرى التي تقتني كل ما له علاقة بالتراجم والسير والمؤّرخات.

إن تاريخنا يذخر بمئات القصص والروايات عن أبطال شعبيين كان لهم أدواراً حاسمة في مقاومة الاحتلال أو في حياة البلاد الوطنية والسياسية بكافة مراحلها، لكنها قد تكون غير مناسبة لعرضها درامياً، لذلك يلجأ الكتاب عادة إلى كتابة سيرة بطل افتراضيّ لضرورات درامية بحتة، فيأخذون من عدة مصادر عديدة ويبنون عليها شخصية العمل، وهو ما قام به عمر أبو سعدة في شخصية تاج الحمّال.

وقد سبق عمر أبو سعدة كتاب كثيرون قاموا ببناء شخصيات افتراضية تقوم عليها أعمالهم الدرامية، مما يجعلك تتساءل أثناء متابعتك لتلك الأعمال فيما إذا كانت هذه الشخصية حقيقية أم لا، كشخصية “درغام صانع الفخار” في مسلسل “أيام الغضب” 1996، وعائلة “القناديلي” في “حمام القيشاني” وشخصية “إسماعيل الدرويش” في مسلسل “أخوة التراب” 1994 ، حيث سبق  لي أن سألت الأستاذ حسن م يوسف قبل سنوات بعيدة عن حقيقة تلك الشخصية ليقول لي أنها شخصية افتراضية قام ببنائها وصياغتها مما سمع من قصص جده وأعمامه ووالده، مردفاً بأنه لا يمكن رواية التاريخ من خلال الدراما دون وجود شخصيات افتراضية تستند عليها الحبكة الدرامية للعمل.

الرواية الدرامية والتوثيق التاريخي في مسلسل “تاج”

وعلى الرغم من محاولة العمل الابتعاد عن السياقات المباشرة للحياة  السياسية التي كانت تتواجد في دمشق آنذاك لصالح إبراز قصص البطولة الشعبية في الجلاء ، وتغييب شخصيات تاريخية بحالها لصالح إبراز الرئيس والزعيم الوطني شكري القوتلي الذي التف حوله السوريون كرمز لحالة النضال والجلاء  وكزعيم للكتلة الوطنية التي كانت التيار السياسي الأبرز في تلك الحقبة والتي التف حولها الشعب إلى جانب الأحزاب الوطنية الأخرى، حيث قدمه المسلسل بوجهه الحقيقي من خلال تقنية الذكاء الاصطناعي وهي سابقة في الأعمال الدرامية العربية.

الرئيس شكري القوتلي كما بدا في مسلسل تاج

 كان يمكن للعمل أن يكون أكثر تكاملاً لو أظهر شخصيات سياسية أو اجتماعية حقيقية أخرى، إذ لا يمكن عرض الحياة السياسية التي سبقت الجلاء دونما التطرق لشخصيات تاريخية سياسية بعينها  كانت تدور بفلك السياسة السورية آنذاك كشخصيتي الزعيمين سعد الله الجابري و جميل مردم بك فقد كان الأول رئيساً للبرلمان الذي جرى توثيق قصفه والاعتداء عليه، بينما كان الثاني مدعواً لجلسة استماع حول آخر التطورات المتعلقة بالمفاوضات مع فرنسا في البرلمان في ذات اليوم الذي قُصف فيه البرلمان ولم يستطع الحضور.

كذلك كان يمكن استضافة شخصية الزعيم فخري البارودي الذي كان من أبرز وجوه مدينة دمشق ومؤسس القمصان الحديدية التي تناولها المسلسل، إضافة لقيادته للمقاومة الشعبية داخل الحارات والأحياء الدمشقية في فترة الأحداث التي شهدها المسلسل.

لكن الكاتب عمر أبو سعدة أراد أن تكون الرواية مستندة كلياً إلى أبطال شعبيين افتراضيين، كشخصية هشام الذي التحق بالدرك واستشهد مع حامية البرلمان أثناء القصف الفرنسي مع العلم بأنه لا يوجد أي شهيد من شهداء البرلمان الحقيقيين يحمل اسم هشام،  ربما لألا يغرق في تفاصيل السير الذاتية الحقيقية لشخوص الرواية الحقيقيين، وبهدف إثارة الدهشة وبناء السياقات الدرامية، وهو أعلم بذلك.

الضرورة التاريخية لتوثيق البطولات الوطنية

لقد قدّم مسلسل “تاج” وللمرة الأولى في تاريخ الدراما والفنون البصرية توثيقاً حقيقياً للسنوات والشهور التي سبقت الجلاء، وحادثة قصف البرلمان، وعن الحياة السياسية والاجتماعية لمدينة دمشق في تلك الحقبة، وقدم مشهداً بصرياً  مدهشاً جعلنا نطالب بالمزيد من مثل هذه الأعمال والملاحم.

وإذا كانت اتجاهات الدراما اليوم ليست بصالح هذا النمط من الأعمال، إلا أن المغامرة الملحمية المتمثلة بهذا المسلسل والتي سارت بها الشركة المنتجة مع المخرج المبدع سامر برقاوي الذي امتهن في سنواته الأخيرة مهمة توثيق حوادث لم يسبقه أحد إليها، برفقة كاتب وباحث  متمكن كعمر أبو سعدة بدا في ثاني أعماله في الدراما التلفزيونية أنه على رهان رابح في توثيق محطات هامة من تاريخ البلاد، والذي لم تتعلمه الأجيال إلا بشكل باهت وسريع في مناهج الدراسة، ولم يجرؤ أحد على تقديمه في صيغ درامية ملحمية إلا مرة واحدة كل عشر سنوات، وبالتالي من الممكن وضع هذا العمل بالمكان الذي ينبغي على كل الأجيال أن تشاهده وتتابعه.

قدّم المسلسل عدة رسائل قوية وسياسية عن مستقبل البلاد في حوارات صيغت بعناية واختيرت عباراتها باهتمام بالغ، لينتهي  المسلسل بتوثيق الجلاء ومسيرته، واعتزال بطل العمل “تاج الحمّال” الحياة العامة بشكل كليّ وابتعاده عن السياسة، وانشغاله بأعماله رافضاً أيما رفض رواية أي شيء عما ناضل من أجله سراً لسنوات تحت اسم “المقص”، منحيّاً نفسه تماماً عن أي صراعات سياسية لأنه شعر أن ما حَلُم به هو وأصدقاؤه من أبطال الاستقلال لم يتحقق، وبأنهم بعد أن ملئوا الدنيا وشغلوا الناس ببطولاتهم  وقصصهم قبل الجلاء، تلاشوا هم وقصصهم من ذاكرة الناس  فيما بعده وكأنها لم تحدث.

الحوار الأخير بين تاج الحمال والصحفي سليم
الحوار الأخير بين تاج الحمال والصحفي سليم

بالعودة لحوار المسلسل الأخير الذي دار بين “تاج الحمال” و”الصحفي سليم” حول ضرورة توثيق وكتابة سيرته وسيرة النضال ضد الاستعمار، إذ كان موقف “تاج” أنه يريد أن ينسى و امنع عن التحدث  بأي شيء رغم إصرار “سليم”،  لأن كان يعتقد أن الناس لا تريد أن تسمع ولا أن تتذكر ليجيبه بنفي ذلك عن جميع الناس، وبالعودة للواقع فإنني أعتقد أن الجمهور اليوم يقف إلى جانب “سليم” في أن هذه القصص يجب أن تكتب لتروى، ومهما كان نسيان الناس ونكرانهم لتلك البطولات، إلا أن هناك أجيال يجب أن تعرف وتتعلّم ، ولطالما وُجد كتاب وصحفيون ومغامرون مستعدون لتوثيق وكتابة الروايات الشفهية للأبطال الشعبيين، ومبدعون قادرون على تحويلها لأعمال سمعية وبصرية، لطالما استطعنا كتابة سرديتنا وقصتنا السورية، وحفظنا الذاكرة الوطنية من الضياع، وتركناها للأجيال القادمة، وهو ما ينبغي علينا فعله اليوم، وفي كل يوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى