عن تدمر وأنين الذاكرة …
يومان قضيتهما في تدمر، يومان كانا لا يشبهان أي شيء في هذه الحرب، حفل موسيقي في تدمر وعلى المدرج الروماني إمعاناُ في منح المدينة العظيمة تأشيرة مرور جديدة للحياة، وإحياء لذكرى شهداء البلاد الذين كانت أولى قوافلهم قبل مئة عام. شيء ما تغير في هذه المدينة بعد خمس سنوات كما تغيرت كل بلادنا ونفوسنا وكما تغير ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وفي ظل كل هذه الفوضى بقي شغفي بهذه المدينة كما كان …
لي قصص مطولة مع تدمر، فزيارتها كانت واجباً سنوياً مرة أو مرتين في كل عام، ذاك الواجب الذي انقطع منذ بداية الحرب، ولم أكن أنتظر إلا أن تعود تدمر كي أذهب لزيارتها مجدداً، وأمارس هواياتي المتعددة في حضرة عروس البادية …
لكن هذه الزيارة كانت مختلفة جداً، فالطريق الذي سلكناه بالسيارة غريب للغاية، لم نسافر من الطريق الجنوبي ولم نتوقف عند “بغداد كافيه” في منتصف الطريق، ذلك المقهى البسيط الوديع الحميمي في قلب الصحراء. لم ألتقط صوراً للجبال الشامخة المقابلة لذلك المقهى أو لتلك الشجرة العارية التي تزين مدخله …
لم أدخل تدمر من مدخلها الجنوبي ناحية منطقة الآثار، ولم تكن أولى زياراتي كما في كل مرة “معبد بل”، لم أتناول فطوري كما في كل مرة في الساحة الخارجية للمعبد، ولم أستطع أن أمارس هوايتي في العزف على العود في حرم المعبد الداخلي، لم أجتهد هذه المرة للصعود على سطحه بغية رؤية تدمر بالمشهد البانورامي المتكامل الذي اعتدت أن أراها فيه، لم يكن هناك معبداً للإله بل أصلاً …
ولم أذهب إلى محطتي التالية في تدمر وهي قوس النصر، كان هناك حطام لقوس النصر، ولم يكن هناك جِمالٌ أو إبلٌ لأعتليها ذهاباً وإياباً في الطريق المستقيم، وقد غاب الباعة الجوالون الذين كنت أشتري منهم الحطة والشماغ، جلبت معي من دمشق حطة كنت قد اشتريتها من أمام قوس النصر قبل سنوات …
لم أستمتع كثيراً في جولتي بالمسرح، لأن أصدقاء الرحلة التدمرية القدماء لم يكونوا معي، بعضهم استشهد في الحرب، وبعضهم بات مشتتاً في عواصم الدنيا ومدنها، لم يكن معي أحد منهم هذه المرة، لم نغني سوية تلك الأغاني التقليدية التي تغنى في الرحلات داخل المسرح، ولم أجد سياحاً أجانب ليتفاعلوا معنا في غناء تلك الأغنيات، ولم أجهد نفسي هذه المرة في الشرح لأصدقائي عن مخطط الرحلة بتواتر، ولم أحفزهم بالشرح عن موجودات المتحف الذي سنزوره بالمحطة التالية، لم أضطر للشرح عن مومياوات تدمر الثلاث، ولم نتصور كمجموعة عند تمثال أسد اللات الموجود في مدخل المتحف، لأن المتحف كان عبارة عن خراب للآثار التي دمرت بداخله، فلا التماثيل سلمت من التخريب، ولا المومياوات بقيت على حالها، ولا المتحف بقي على حاله أصلاً …
لم أجد في السوق متجراً ممن كنت أتوقف عندهم لشراء بطاريات لآلة التصوير، أو لشراء قارورة مياه تحضراً للذهاب إلى معبد بعلشمين ثم إلى المقابر البرجية والأرضية فلا السوق كان موجوداً ، ولا معبد بعلشمين كان موجوداً، أما المقابر فكان من الصعب علي أن أزور ما تبقى منها أو أن أجلس عند المشهد الجنائزي في مدفن الأخوة الثلاث، كما هي حال القلعة أيضاً والتي بدا لي أنها قد أصيبت بأضرار القذائف كما كل تدمر …
لم أتناول وجبة الغداء في واحة من الواحات ، ولم أدخن النرجيلة بين أشجار النخيل في الواحة التي كنا نذهب إليها دائماً ، لم نسهر حتى المساء في واحة نخيل ، ولا في خيمة عربية في منتصف الصحراء، ولم أعزف على العود وأغني مرسيل وزياد حتى ساعات الليل المتأخرة هناك، لم أجد أياً من الأشخاص الأصدقاء من أهالي تدمر و الذين كانوا يستضيفونني وأصدقائي عند كل زيارة إلى المدينة، في الواقع لم يكن هناك أهالي في المدينة، ولم تكن هناك أصلاً مدينة…
كانت المدينة عبارة عن منطقة عسكرية مغلقة بالكامل، والمعروف دائماً أن المناطق العسكرية لها طبيعة خاصة لا تستطيع التعاطي معها كما في الأحوال الطبيعية، ويبدو أنها ستبقى طويلاً على هذا الحال.
عند مساء ذلك اليوم قام الحفل الموسيقي الكبير، عادت الروح لهذه المدينة لساعات بوجود المئات من السوريين الحقيقيين الذين تكفلوا عناء سفر الساعات الستة وصولاً لحضور هذا الحفل ثم ليعودوا بذات اليوم متكفلين عناء الست ساعات القادمة أيضاً … فكان الحفل إثباتاً لفكرة أن مئات وآلاف السنين من الحضارة في هذه الأرض لا تذهب ولا تموت مهما مر عليها من حروب ومن دمار، عندها فقط تأكدت أن تدمر ستعود كما كانت، ولو بعد عشر أو حتى عشرين عام
عدت إلى دمشق وذاكرتي تأن في سنوات ما قبل الحرب، عدت وأنا أفكر بحمص التي أرفض زيارتها حتى الآن لألا أقع بنفس المقاربة التي شهدتها بتدمر، عدت وأنا أفكر بحلب التي لم أزرها إلا مرة واحدة في بداية الحرب وأغرمت بها حد الثمالة، عدت لأكتشف أنني لم ألتقط بهاتفي أو بآلة التصوير ولا حتى صورة واحدة، وأنا الذي كنت في كل زيارة لتدمر أملئ بطاقات الذواكر صوراً عن تلك المدينة، يبدو أن ذاكرتي غلبت حاضري فلم أشأ أن أغير صوري القديمة مع تدمر…
و باستثناء بعض الصور بهواتف الأصدقاء، وصورة يتيمة صورني إياها صديقي بالطريق المستقيم أو ما يعرف بالسوق في تدمر بالقرب من المسرح هي هذه الصورة…