المنظمات الشعبية في سورية تاريخ عريق حاضره يحتاج إلى حل .. أو بانتظار الحل !!.
قبل بضعة أسابيع ، صدر مرسوم رئاسي يقضي بحل الاتحاد العام النسائي بشكل نهائي ، بعد أن استمر عمله لمدة تزيد عن الأربعين عام .
وقد انقسم السوريون حول هذه الخطوة ، فمنهم من رأى أن هذه المنظمة قد أعطت الكثير ، وأدت دوراً كبيراً في تنمية المرأة ورعايتها والدفاع عن حقوقها لا سيما في الأرياف والمدن البعيدة ، وبالتالي كان من الأجدر تطوير هذه المنظمة بشكل يحفظ تاريخها العريق ، ومنهم من رأى أنها باتت عبئاً على المجتمع وعامل مقيّد للحركة النسائية ، وبالتالي رحبوا بهذه الخطوة ، ومنهم من رأى أن في إنهاء المنظمة فرصة لقيام حركات وجمعيات نسوية على أسس جديدة بما يتعلق بتنمية المرأة والدفاع عنها ، إذ أن قانون الاتحاد العام النسائي الملغى ، كان يحظّر إنشاء أو تأسيس أي جمعيات أو منظمات نسائية في سورية ، وبالتالي احتكر العمل في الشأن النسوي في سوريا .
الحال الذي وصل إليه الاتحاد العام النسائي قبيل أن يطاله مرسوم الحل ، لا يختلف كثيراً عن سواه من المنظمات الشعبية القائمة اليوم في سورية ، على اختلاف الاختصاصات والشرائح الشعبية التي تضمها . فالمنظمات الشعبية هي أطر تنظيمية تضم فئات الشعب التي لها مصلحة بالتغيير الثوري للمجتمع على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والانتقال من نظام إلى آخر أكثر تقدماً وبطريقة جذرية . وتعتمد هذه المنظمات في أساسها النظري ؛ وتغذي جذورها من الفكر الاشتراكي الثوري الذي ساد في القرن العشرين ، ومن بُنى أنظمة اشتراكية وأنظمة تحرر وطني ديمقراطي في دول متعددة من العالم .
وعندما استلم حزب البعث العربي الاشتراكي زمام السلطة في سورية بعد ثورة 8 آذار لعام 1963، وتولى قيادة الدولة عبر إقامة نظام سياسي اشتراكي يتبنى مبدأ الديمقراطية الشعبية الذي تتكون أولى أدواته من تعبئة فئات الشعب المختلفة في منظمات تتبع بشكل مباشر للحزب أو رديفة له بشكل أو بآخر . وجاء الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية لعام 1973 ليثبت هذا المبدأ صراحة في مادته الأولى ،وليعطي حصرية قيادة المجتمع والدولة لحزب البعث العربي الاشتراكي في مادته الثامنة ، ويتحدث عن دور المنظمات الشعبية في المادة التاسعة التي كانت تنص على أن ” المنظمات الشعبية والجمعيات التعاونية تنظيمات تضم قوى الشعب العاملة من أجل تطوير المجتمع وتحقيق مصالح أفرادها” .
واستناداً إلى الدستور ، تم إعادة تنظيم المنظمات الشعبية القائمة ، واستحداث أخرى جديدة في مرحلة البناء التنموي التي جاءت بعد عام 1970 ، لتصدر تباعاً مراسيم وقوانين إحداث لمنظمات شعبية : للأطفال ( منظمة طلائع البعث ) ، للشباب ( اتحاد شبيبة الثورة ) ، للطلبة ( الاتحاد الوطني لطلبة سورية ) ، للنساء ( الاتحاد العام النسائي ) ، للعمال ( الاتحاد العام لنقابات العمال ) ، للفلاحين ( الاتحاد العام للفلاحين ) ، للحرفيين ( اتحاد الجمعيات الحرفية ) ، للرياضيين ( الاتحاد الرياضي العام ) وغيرها من المنظمات التي تنظم فئات الشعب بمختلف شرائحها العمرية أو العملية . وقد نصّت آنذاك مراسيمُ الإحداث والتنظيم على حصرية تلك المنظمات في نطاقات عملها ، إضافة إلى أن أهدافها وبرامجها وخطط عملها كانت كلها تصب في ذات أهداف وبرامج وسياسات الحزب السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، كما أنها كانت تتبع لقيادة الحزب مباشرة ، ولا علاقة للحكومة بعملها نهائياً ، فكانت بطبيعة الحال كل المنظمات الشعبية خاضعة لقرارات قيادة الحزب بشكل مباشر بما في ذلك تعيين قياداتها ، لذلك كان على قياداتها وبكافة المستويات أن يكونوا أعضاءاً عاملين وفاعلين في الحزب .
لم يقتصر دور المنظمات الشعبية على الدفاع عن الشريحة التي تعبر عنها هذه المنظمة أو تلك ، كما لم يقتصر على تطوير القطاع الذي تعمل فيه ، وإنما يتعدّى ذلك إلى أبعد بكثير ، وقد لعبت المنظمات الشعبية دوراً هاماً في عملية البناء لسنوات طوال ، فوقع على عاتقها المشاركة في تنفيذ خطط التنمية والعمل على رفع الكفاءة الإنتاجية ، والإسهام في رفع المستوى الثقافي والاجتماعي لأعضائها ، إضافة إلى دورها الأيديولوجي الأساس المتمثل بتعميق الفكر الذي ينادي به حزب البعث العربي الاشتراكي ، إلى جانب نشر التوعية الوطنية .
كما اضطلعت هذه المنظمات بمهام في مجالات التربية والتثقيف والتدريب المهني والإسكان والخدمات الصحية ، وأدت دور المحفز الدائم في بناء المجتمع والدفاع عن المكتسبات التي تحققت . وكان من أكثر الأدوار التي لعبتها المنظمات الشعبية أهمية ، أنها أسهمت بشكل جلي بكافة الاستحقاقات السياسية التي مرت بها البلاد .
كانت المنظمات الشعبية مصدراً أساسياً لتصدير القيادات الحزبية والإدارية والسياسية إلى مفاصل الدولة طوال المرحلة السابقة ، فالنشاط التنظيمي الذي يتبعه أي منتسب لهذه المنظمات كان بمثابة دخوله إلى مدرسة من مدارس الشأن العام يكتسب منه خبرات قيادية وإدارية وسياسية وتثقيفية كبيرة ، كما كانت هذه المنظمات بمثابة البارومتر لأي تغيير في توجهات الحزب التنظيمية والاقتصادية والاجتماعية ، وحتى السياسية ، وكانت كل منظمة من تلك المنظمات أقوى من أي وزارة أخرى ، لأن أهميتها تنبع من أنها تلعب دوراً أساسياً كجسر بين الحكومة والمجتمع في كثير من القطاعات من جهة ، و نتيجة امتلاك كل منها للموارد البشرية الهائلة في نطاقات عملها من جهة أخرى . كما استطاعت كل منظمة منها الوصول إلى نوع من الاكتفاء الذاتي مالياً نتيجة الاستثمارات والمؤسسات التي أنشأتها كل منظمة على حدة لتقدم لها الريوع المناسبة لإقامة نشاطاتها ، ومنحت حصرية عمل كل منظمة شعبية بشريحة محددة القوة للمنظمة لتكون الجهة المعنية والشريك الأساس في بناء أي استراتيجيات تتعلق بتلك الشرائح ، أو بالشراكات مع المنظمات الدولية المانحة في برامج محددة ، أو بتمثيل هذه الشرائح في المحافل العربية والإقليمية والدولية .
لقد كان للمنظمات الشعبية دوراً كبيراً وهاماً للغاية على صعيد نشر الوعي الوطني بين المواطنين أنفسهم ، حتى وإن كانت بحوامل أيديولوجية ، لكنها أثرت في بناء الأجيال بشكل كبير في مراحل بناء الدولة في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي ، وهذا الدور الوطني كان له مكتسبات عديدة تمثلت بإنجازات عديدة لا مجال لتفصيلها في هذا المقال ، وقد وصل هذا الدور الريادي للمنظمات إلى ذروته حتى منتصف التسعينات ، وبدأ بالتراجع رويداً رويداً ، إذ لم يتطور عمل كثير من هذه المنظمات كبنى تنظيمية أو حتى فكرية أو حتى على صعيد منهجيات العمل ، لدرجة أن آخر مراجعة منهجية لإحدى المنظمات يعود إلى عام 1999 ، لكن التسارع الذي بدأ العالم كله يمر به لم يسعف هذه المراجعات ، إذ لم تواكب هذه المنظمات التغييرات التي حصلت بالبلاد منذ مجيء الرئيس بشار الأسد إلى سدة الحكم في عام 2000 ، عندما أطلق مشروع التطوير والتحديث ، وابتدأت رياح التغيير تطال الكثير من المفاصل .
وعندما اتخذ الحزب قرارات بالتغيير الاقتصادي في عام 2005 ، كان هذا التغيير يعني أن هناك تغييراً اجتماعياً كبيراً سوف يرافق إطلاق نظام السوق الاجتماعي . لكن هذه المنظمات أبقت على آليات عملها كما كانت في التسعينات والثمانينات ، ولم تواكب هذا التغيير ، بل اكتفت بدور المروج للنظام الاقتصادي الجديد دون أن تعلم حقيقة أن دورها كمنظمات يختلف اختلافاً جذرياً حسب شكل النظام الاقتصادي المعمول به في البلاد ، وهذا الأمر بطبيعة الحال مرتبط ارتباط كلي بإرادة قيادة الحزب ، لأن التغيير الذي طال الاقتصاد دون تعديل دستوري في عام 2005 لم يأتِ على ذكر البنى التنظيمية الموجودة في الدولة ، ولأن التغيير السياسي وبالتالي الدستوري لم يكن أولوية آنذاك أمام التحول الاقتصادي ، وليس هذا موضوعنا في هذا المقال .
سرعان ما سُحبت الكثير من صلاحيات هذه المنظمات ، وسرعان ما اتخذت سياسات تحد من نشاطها ، وسرعان ما خَفَت الدور الذي كانت تلعبه بفعل التغييرات الاقتصادية من جهة ، وبفعل إطلاق العشرات من الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني التي تعمل بمجالات تتقاطع مع عمل هذه المنظمات . ليبدأ الترهل في آلية عمل المنظمات ، فبين القادم الجديد الذي يجيد العمل بأدوات العصر الجديد مع تطور تكنولوجيا المعلومات والتواصل ومنهجيات الإدارة الحديثة للنشاط المجتمعي ، وبين منظمات تمتلك تاريخاً تقتات عليه ولا تجيد تطوير آليات عملها ، لتجد نفسها تدور في دائرة مغلقة لا تعرف الخروج منها ، ولتقع في مجال المقارنة بينها وبين جمعيات صغيرة ناشئة ، ليقتصر عملها في آخر المطاف على العمل بمنهجيات الثمانينات والتسعينات الذي لم ولن يجذب الأجيال الجديدة التي اعتادت الاطلاع على كل جديد من خلال الوسائط الحديثة التي وفرت صيغاً جديدة للاجتماع والعمل الجماعي ، تفوق بفارق كبير على أساليب عمل المنظمات الشعبية التقليدي .
مع بداية الحرب على سورية لم تجد هذه المنظمات لنفسها دوراً أكبر من الدور الذي كانت تلعبه في السابق ، وعلى الرغم من أن هذه المنظمات – ككل المؤسسات والقطاعات في سورية – قد عانت من الخسائر وقدمت التضحيات الكبيرة ، إلا أن الترهل وحالة المراوحة في المكان اللذان أصاباها خلال السنوات التي سبقت الحرب ، وحالة العزوف عن العمل فيها من قبل شرائح كبيرة من المواطنين ، بمقابل التحاقهم للعمل بمؤسسات أهلية وخيرية ومنظمات مجتمع مدني تضاعف عددها عشرات المرات بفعل الحرب والتغييرات الحاصلة ، جعل من هذه المنظمات منظمات حشد وأدلجة تنتهج منهج انتظار التوجيه بعيداً عن أي مبادرات حقيقية تترك أثراً في المجتمع ، وأدت هذه الحال إلى عزوف قياداتها عن التفكير بجدية تجاه مستقبل منظماتهم ، مع العلم أنه في حدود معرفتنا ، أن بعض قيادات المنظمات كانت قد تقدمت بمشاريع لتطوير عمل منظماتهم إلى قيادة الحزب ، لكن الممارسة كانت بعيدة عن التفكير بالمستقبل ، بل تعدى الأمر ذلك لقيام قيادات بعض المنظمات الشعبية بتكريس الترهل الموجود وإضعاف القواعد من خلال عدم اعتماد برامج تدريب وتطوير في المنظمات تارة ، وتارةً أخرى من خلال الدوران في دائرة قديمة حول دور هذه المنظمات واختلاق الصراعات مع تنظيمات المجتمع الناشئة بحجة الحصرية . وكانت حجة ضغط النفقات جاهزة دائماً للامتناع عن أي مبادرات أو مشاريع جديدة ، مما أدى إلى تكريس الفساد الإداري وأحياناً المالي كمبدأ عمل مستتر في هذه المنظمات .
إن الدستور الذي أقر في عام 2012 ألغى حصرية قيادة المجتمع والدولة للحزب وأتى بتعددية سياسية ، وهذا يعني أن الحصرية التي تمتعت بها هذه المنظمات لا بد أن تختفي قريباً ، فقد أعاد الدستور ذكر أهمية المنظمات الشعبية كمنظمات وطنية مضيفاً إليها الجمعيات ، حيث تنص المادة التاسعة على : ” المنظمات الشعبية والنقابات المهنية والجمعيات ، هيئات تضم المواطنين من أجل تطوير المجتمع وتحقيق مصالح أعضائها ، وتضمن الدولة استقلالها وممارسة رقابتها الشعبية ومشاركتها في مختلف القطاعات والمجالس المحددة في القوانين ، وذلك في المجالات التي تحقق أهدافها ، ووفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون ” .
فالصيغ الحالية لمجال عمل المنظمات قد يعيق نشاط المستفيدين منها حقاً كما في الاتحاد الرياضي العام على سبيل المثال ، لأن قرار المنظمة مرهون بمكتب من مكاتب القيادة الحزبية ، وإن حصرية منظمتي الشبيبة والطلائع بالعمل مع التلاميذ والشباب يخالف الدستور – وبعض المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها سورية منذ سنوات بعيدة – بشكل أو بآخر لأنهما منظمتان رديفتان للحزب ، وكما أسلفنا فإن الحزب لم يعد قائداً للدولة والمجتمع بموجب مادة دستورية ، وهناك كثير من الأسباب المشابهة في المنظمات والاتحادات الأخرى ولكل خصوصيته .
وعلى اعتبار أن الدستور الجديد يجب ما قبله ، فإن الكثير من القوانين الناظمة لعمل هذه المنظمات يحتاج إلى تعديل وإلغاء مراسيم وقوانين قديمة ، واستحداث قوانين ومراسيم تنظم عمل المنظمات الشعبية من جديد . لا سيما وأنها تمتلك استثمارات وأملاك وأراضٍ ومقرات واسعة وإمكانيات هائلة وتمتلك موارد بشرية واسعة . فإن بقيت قيادات هذه المنظمات تنتظر التوجيه بالتغيير فإنها ستقضي على مكتسبات منظماتها التي حققتها على مدى السنوات السابقة ، لا سيما وأن المناخ العام داخل هذه المنظمات يطلق التنبؤات يمنة ويسرة حول مستقبل عملها .
لذلك إن لم تبادر هذه المنظمات إلى تجديد نفسها ، ووضع خطط مستقبلية تواكب تطلعات العصر الجديد ، والتغيرات الحاصلة في البلاد ، فإنها ستجد نفسها في مأزق حقيقي أمام مشاريع الإصلاح التي قامت وستقوم في البلاد الآن وفي المستقبل . لا سيما أن التغيير إن حصل ، فسيترك فراغاً كبيراً في وسط الشرائح التي تمثلها هذه المنظمات . وما لم تسعى قيادات هذه المنظمات إلى طرح نفسها بشكل جديد يحاكي الواقع الراهن ، وإلى إيجاد الحلول المناسبة لمشكلة مراوحتها في المكان ، وتقديم صيغة عملها القادمة بمبادرة منها ، وبشكل يعيد جذب شرائحها الشعبية مجدداً ، فإنها ستواجه مصيراً إن لم يكن مشابهاً لمصير الاتحاد العام النسائي ، فإنه لن يبقي على ما تتمناه قيادات المنظمات نفسها اليوم ، فكيف ومن سيملأ الفراغ الذي سينشأ عن التغيير القادم ؟.
نشرت في موقع أخبار الوسط