شأن عاممجتمع مدني

العمل المدني في سورية .. أمر واقع وأزمة مصطلح ..

لم يعتد السوريون قبل الحرب على المساهمة بشكل فاعل في الشأن العام ، ونأت الغالبية العظمى من أبناء الشعب السوري بنفسها عن المشاركة بالعمل العام نتيجة احتكار الحكومة وأجهزة الحزب والسلطة للحيز العام كاملاً ، فلم يكن المواطنون شركاء حقيقيين في مواجهة مشكلات مجتمعاتهم وإبداع الحلول لها . وأدى انكفاء الشرائح الأكبر منهم وابتعادهم عن المشاركة المجتمعية الفاعلة إلى اختلال الثقة بين المؤسسات العامة والمواطنين مما حدّ من إحساس المواطن بمواطنته ، إذ لم تكن التجارب السورية السابقة في التنمية مصاغة بما فيه الكفاية لصوت المواطن .

ولهذا الأمر أسباب تتعلق أولاً بشكل النظام السياسي القائم منذ قيام الحركة التصحيحية في سورية ، والتي أفضت إلى دولة مركزية يحكمها ويدير شؤونها كاملة حزب البعث العربي الاشتراكي ، وتتبع له منظمات شعبية عديدة تقوم بتعبئة الجماهير لصالح هذا الحزب ، حيث لا مكان للعمل العام إلا من خلال الحزب ومنظماته وبعض الأحزاب الصغيرة التي تدور في فلكه من خلال ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية ، تلك المرحلة كان ما لها وما عليها ، فكانت المنظمات الشعبية التي أتت مع النظام السياسي تلعب دور القطاع الثالث غير الحكومي في سورية ، إذ كانت الصيغة المعمول بها تلائم المجتمع القائم في تلك الأيام ، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود عشرات الجمعيات الأهلية الخيرية وبعض الجمعيات التخصصية التي تأسست وبقيت على ما هي عليه إما قبل الحركة التصحيحية أو في ظلها ، وهذا يعني أن ” المجتمع الأهلي ” كان موجوداً في السابق وإن على نطاق ضيق ، ولم يتطور لأن يضم قطاعات غير أهلية ، لأن العمل بالشأن العام منوط بالحزب ومنظماته كما أسلفنا .

ونتيجة للتحولات الاقتصادية والسياسية التي حصلت في سورية في السنوات التي سبقت الحرب السورية الحالية ، بدا وأن هناك ملامح جديدة لتغيرات مجتمعية عديدة تتجلى من خلال نشوء تنظيمات مجتمعية جديدة وبقطاعات مدنية جديدة ، لكنها بقيت تحت مسمى ” المجتمع الأهلي ” وبمباركة كبيرة ورعاية من أجهزة السلطة والحكومة على مختلف مستوياتها تحت عنوان ” التوجه الجديد ” ، وبدا أن هذه التنظيمات ما هي إلا أدوات مرافقة لعملية التغيير الاقتصادي الذي ساد بعد العام 2005 بشكل كبير ، فنشأت منظمات عديدة تعنى بالترويج لأفكار ريادة الأعمال وتنظيمها ، واتحادات لرجال الأعمال ، ومنظمات شبابية وتطوعية ، ومنظمات تهتم بالطفل ، ومؤسسات ثقافية ، ومؤسسات أهلية تعنى بالتنمية والتدريب والتطوير ، إضافة إلى تأسيس عشرات المؤسسات التي تعنى بالشرائح المهمشة كمرضى السرطان أو ذوي الاحتياجات الخاصة ، كما ازداد عدد الجمعيات الخيرية وجمعيات البر الاجتماعي .. الخ وكان لهذا الحراك المجتمعي توجيه ورعاية ومباركة خاصة من رئاسة الجمهورية .

على المقلب الآخر ، لم تكن هناك أي حصة من هذا الحراك المجتمعي لتنظيمات تتناول الشأن العام بشكل ضاغط يضمن تأثيراً حقيقياً في الخطط والسياسات العامة مثلاً ، أو يضمن مشاركة شرائح عديدة في اجتراع الحلول المجتمعية ، كما أن شحّ المنابر التي يستطيع المواطنون من خلالها التعبير عن واجباتهم وممارسة حقوقهم كانت مفتقدة بسبب ندرة الخيارات وغياب التنوع في طبيعة مثل هذه المنابر الموجودة والمترهلة أصلاً بفعل بقائها لسنوات طويلة دون أي عملية إصلاح حقيقية ، عدا عن غياب أي آلية لتفعيل عمل الأحزاب السياسية القائمة أو السماح بقيام أحزاب سياسية جديدة .

عند ما بدأت الأزمة السورية بالتفاعل مطلع العام 2011 ، لم يكن في سورية عدد كافٍ من المؤسسات والجمعيات ومنظمات المجتمع الأهلي والمدني التي من الممكن أن تواكب كل الأعباء التي عصفت بالبلاد ، كما لم يكن من المتوقع أن تحتمل الدولة كل هذه الأعباء وهي تخوض حرباً وطنيةً ضروساً للحفاظ على الدولة وأرضها ومكتسباتها وحقها في السيادة . فبدأ المجتمع المدني في سورية يكتسب أولى ملامح إعادة تشكله ، ليفرض نفسه أمراً واقعاً في نهاية المطاف ، ست سنوات ونيّف انقضت منذ بدء الحرب السورية كانت كافية لحصول تغيّرات هامة في كافة القطاعات ، وكان أولها قطاع المجتمع المدني .

تشير إحصائيات في أحد التقارير التنموية أنه في العام 2011 كان تعداد المنظمات غير الحكومية في سورية يشكل رقماً خجولاً للغاية ، فقد كان هناك منظمة غير حكومية واحدة لكل 23 ألف مواطن ، في حين أنه يوجد في البلدان العربية المجاورة منظمة غير حكومية لكل 3000 مواطن . كانت هذه الأرقام تتناقض مثلاً مع كثافة حضور حققتها سورية بقطاعات التعليم والصحة والقطاع الخاص مما شكل ثغرة كبيرة في الطاقة الكامنة للقطاع المدني .

وقد أثبتت الأحداث المتتابعة للحرب في سورية لاحقاً ، لا سيما من خلال عمليات الإغاثة والاستجابة الإنسانية ، بما لا يدعو للشك ، قدرة المجتمع الأهلي السوري (( لا سيما الجزء غير المنظم منه )) على تحمل الجزء الأكبر من المشكلة الإنسانية ، فتشكلت مع بدء الأزمة عشرات الفرق التطوعية التي تحولت لاحقاً إلى مؤسسات وجمعيات ومنظمات بعضها حاز على ترخيص وإشهار من خلال القوانين النافذة لا سيما قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة الصادر عام 1958 ، وبعضها حصل على احتضان وشراكات للعمل مع مؤسسات حكومية أو مؤسسات غير حكومية كبيرة . في حين توجه الكثيرون من الفاعلين بالشأن العام لممارسة نشاط عام لم تعتاده البلاد سابقاً سواء من خلال العمل السياسي الصرف لا سيما بعدما صدر قانون الأحزاب السياسية في عام 2011 ، أومن خلال تأسيس مؤسسات ذات طابع شبابي وطني يعبّر عن أفكار تدعم الدولة .

كما ازدادت المؤسسات والكيانات الفاعلة في الشأن العام مع تزايد الحاجة لعملها عاماً بعد عام ، وتنوعت مجالات العمل والمشاركة بهذه المؤسسات مع استمرار الحرب في سورية ، فنشأت مؤسسات جديدة تعنى بتعزيز المواطنة والثقافة والتنمية ، ومؤسسات تعنى بالتوثيق والتأريخ للأحداث ، ومؤسسات إعلامية ذات طبيعة تطوعية مدنية ، وعديد من المؤسسات التي تعنى بالتنمية المدنية والتدريب والتطوير . إضافة إلى مئات الجمعيات والفرق التطوعية الخيرية أو تلك التي تهتم بأطفال الشوارع والمتسربين من المدارس وغيرها من الكيانات التي تواكب الاحتياجات الناشئة بفعل الحرب والأزمة . وفي المحصلة فإن عدد المنظمات غير الحكومية المرخصة تضاعف عشرات المرات عما كان عليه قبل الحرب، وغدت الكثير من هذه المنظمات تحصل على تمويلات وشراكات من المنظمات الدولية العاملة في سورية لتلبية الاحتياجات المجتمعية المتزايدة .

وقد شكل النمو بهذا القطاع عاملاً أساساً في تحولات مجتمعية كبيرة في سوق العمل أولاً ، وفي ذهنية التفكير الجمعي لدى المواطنين السوريين ثانياً ، وبات العمل المدني أمراً واقعاً أكثر من أن يكون نابعاً عن إرادة حقيقية من مؤسسات الحكومة والسلطة ، على الرغم من أن ممارسة العمل بهذا القطاع لا يزال يخضع بالكامل لإرادة مؤسسات الحكومة والسلطة ، إذ لا يزال من الصعب ممارسة أي عمل مدني سواء أكان ذو طبيعة تنموية أو إغاثية أو إنسانية أو ثقافية أو فنية حتى دون الحصول على عشرات الموافقات والأوراق الموقعة من هنا وهناك ، وهو الأمر الذي حقق توازناً وعاملاً رقابياً هاماً في عمل القطاع المدني من أن ينزلق في متاهات التمويل الغامض والأجندات المبهمة ، كما يحصل عادة في غير بلدان .

نتحدث اليوم عن الوضع الراهن باقتضاب واختزال كبيرين عما هو الحال على أرض الواقع ، لكن التجربة تشير إلى أن السنوات المقبلة على البلاد ستتطلب أعباء كبيرة لن تستطيع مؤسسات الدولة تلبيتها بمفردها ، لذلك سيكون من الأجدى والأجدر إيجاد سياسات بديلة وآليات عمل تضمن مشاركة الجميع في المرحلة المقبلة والتي ستتضمن إصلاحاً وتطويراً وإعادة تأهيل للمجتمعات المحلية ، وصولاً لمؤسسات الدولة الأكبر . ولا بد من الاعتماد على القطاع المدني غير الحكومي في كثير من الأعمال التي تتطلب مسؤوليات في عملية إعادة الإعمار ، وعملية إعادة البناء الاجتماعي ورأب الصدع الحاصل في المجتمعات المحلية ، وتحقيق المصالحات الوطنية الشاملة ، إضافة للاستمرار بتحمل أعباء عملية الإغاثة والاستجابة الإنسانية .

إن أول ما نفكّر به عند استعراض ما أتينا به في هذا المقال هو تطوير وتحديث البنية القانونية والتشريعية ، والنظرة الحكومية التي ترسم عمل القطاع المدني غير الحكومي، فأولى التحديات التي تتناول هذا القطاع هو تسميته ، إذ لا يزال مصطلح المجتمع المدني بحد ذاته يشكّل أزمة حقيقية في التداول سواء على صعد إعلامية أو على صعد العمل العام ، لأن المصطلح بحد ذاته يترك التباسات مختلفة لها أسبابها لدى الحكومة وأجهزة السلطة ، وهذا الأمر له مرده من المدلولات السياسية له ، لا سيما أن المصطلح استثمر في السابق من قبل تيارات تناصب السلطة العداء ، إضافة للتمويلات الهائلة العابرة للحدود والتي تسعى لبناء مجتمعات مدنية ملونة بأفكار الممولين لا بمصلحة المجتمع المحلي . فغالباً ما يستعاض عن تسمية المجتمع المدني بمصطلح ” المجتمع الأهلي ” أو ” القطاع الخيري ” أو ” القطاع الثالث ” أو ” القطاع غير الحكومي” أو ” القطاع غير الربحي ” .. الخ من التسميات ، إذ تشير كل من هذه التسميات إلى عمل هذا القطاع .

ولضمان استمرارية وتطور عمل هذا القطاع بحسب احتياجات المجتمع والدولة الحالية والمستقبلية لا بد أن تزول التباسات المصطلح ولابد من وضع تعريف محلي خاص به وبفهمنا له ، وتحديد دلالاته ومداه ، إما من خلال تحديث وتطوير القوانين الحالية المرتبطة بالعمل المدني بشكل عام ، أو الإتيان بقانون عصري للمنظمات غير الحكومية ، بما يضمن تحصين هذا القطاع وتقويته ضماناً للقادم من الأيام وتشجيعاً للمواطنين على المشاركة واستمرار النشاط والاهتمام في الشأن العام .

 

نشرت في موقع الوسط 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى