شباب

عن نظام الفتوة في سورية، وإلغاء التربية العسكرية في مدارسها

صادف منذ يومين السبت 23 أيار الذكرى السابعة عشر لصدور قرار حكومي بإلغاء التربية العسكرية في مدارس الجمهورية العربية السورية، واستبدال اللباس المدرسي “الخاكي” الأشبه باللباس العسكري بلباس يميز المرحلة الإعدادية -التي بات يطلق عليها مرحلة التعليم الأساسي الحلقة الثانية- عن الثانوية ، فغدا لباس المرحلة الإعدادية أزرقاً، بينما اعتمدت البزات الرمادية لباساً للمرحلة الثانوية، وتم تمييز الذكور عن الإناث، بحيث تلبس التلميذات قميصاً زهري اللون تحت البزة، بينما يلبس التلاميذ قميصاً أزرق اللون.

عند صدور القرار أعلاه كنت قد تخطيت الصف الثاني الثانوي وأستعد للالتحاق بالصف الثالث الثانوي أو ما يعرف بالـ “البكالوريا” في العام الدراسي التالي، وفعلاً في العام التالي كان اللباس الذي ارتديته للمرة الأولى والأخيرة هو البزة الرمادية والقميص الأزرق، وأذكر أن مديرية التربية كانت قد عوّضت كل الطلاب آنذاك بمبلغ مالي قدر بـ 575 ليرة سورية مع بدء العام الدراسي تحت بند “بدل لباس مدرسي”، وكنت ممن حصل على ذلك التعويض على الرغم من أنني كنت طالباً في مدرسة خاصة.

كنت في الثانوية العامة عندما صدر قرار إلغاء التربية العسكرية، وهذا يعني أنني درستُ بدءاً من الصف الأول الإعدادي وحتى الثاني الثانوي التربية العسكرية لمدة خمس سنوات، حفظت خلالها عن ظهر قلب ما كان يسمى بالفاتحة العسكرية بفقراتها الثلاث “بما أن قوة الجيش في نظامه فقد اقتضى ذلك على أن يحوز القائد على طاعة مرؤوسيه التامة وخضوعهم له في كل الأوقات …إلخ”،

ومارست النظام المنضم، تعلمت الرتب والمراتب العسكرية، ومختلف صنوف التشكيلات العسكرية من القوى البرية والحرية والجوية والدفاع الجوي، تعلمت عن الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة وأسلحة الدمار الشامل، وتثقفت بكثير من الدروس النظرية عن أنواع الحروب وأنواع الجيوش وتاريخها، عرفت القناع الواقي بأنواعه لأول مرة وتلمّسته وتعلمّت ارتداءه، تعلمت فك وتركيب البندقية التشيكية والبندقية الروسية ومسدّس “الماكاروف”، وتعرّفت على القنابل الهجومية والدفاعية أو ما يعرف بالـ رمّانات، عرفت دلالات ومعاني مصطلحات كالمدى المجدي والمدى الأقصى وعلبة المغلاق وغيرها، ودرست بشكل نظري وعمليّ عن كثير من الموضوعات كالإسعاف الأولي وإطفاء الحرائق وأعمال الدفاع المدني، خضعت لمعسكر الصف العاشر أو ما يعرف بـ “معسكر الإعداد النضالي”، ورميت بالبندقية التشيكية مرتان في حقل الرمي بمعسكرات جربا.

كان هذا حال كل أبناء جيلي والأجيال التي سبقتنا كتلاميذ في المرحلة الثانوية، فقد كان النجاح في فحص التربية العسكرية شرطاً لازماً للدخول إلى امتحان الشهادة الإعدادية، وكذلك حضور معسكر العاشر كان شرطاً لازماً للدخول إلى امتحان الثانوية العامة.

وقد اختفت هذه الشروط واختفت معها كل مظاهر العسكرة والتربية النضالية والعسكرية في مدارس سورية، دون أن يحل محلها أي شيء يذكر سوى مادة سميت بالأنشطة اللاصفية، لم يوضع لها منهاجاً واضحاً أو مفردات عامة تعرف ما هي ماهية هذه الأنشطة.

كثيراً ما ينسب لحكم حزب البعث العربي الاشتراكي مبدأ “عسكرة الأجيال” وإدخال التربية العسكرية واللباس العسكري والحياة العسكرية إلى المدارس، لكن الحقيقة أن موضوع التربية العسكرية، أو ما كان يعرف بالـ “الفتوّة” هو نظام تم اعتماده في سورية منذ عام 1945، وقد جاء في “دليل الجمهورية السورية” الصادر عام 1946 عن جريدة “النظام” بدمشق ما يعرف بـ “نظام الفتوة لإعداد طلاب المدارس الثانوية للحياة العسكرية” حيث ورد في المادة الأولى منه ((على وزارة المعارف أن تعد الطلاب إلى الحياة العسكرية إعداداً عملياً خلال دراستهم الثانوية وذلك بتقوية أبدانهم وتنسيق حركاتهم وتطبيعهم بالطبائع والخصال التي تتحملها الحياة العسكرية من تحمّل المشاق وحب النظام وروح الطاعة وشيمة المفاداة)) وأورد النظام الوسائل والأدوات لتحقيق هذا الهدف ضمن نظام اشتمل على أربع عشرة مادة، يمكن للقارئ الاطلاع عليها بالصور المرفقة.

ولأجل إعداد هذه التدوينة، قمت بسؤال عدد ممن عايشوا تلك الحقبة وما تلاها، وما أكده لي العديد منهم بأن النظام لم يعمل به في المدارس بشكل إلزامي حتى ما بعد عام 1956 عام العدوان الثلاثي الذي أجج المشاعر القومية وجعل الحكومات تعمل لإعداد جيل مدرّب ومؤهل استعداداً لمعركة مع إسرائيل، عدا عن نمو تيار المقاومة الشعبية في سورية ومعظم البلاد العربية عقب نكبة عام 1948. آنذاك تم تفعيل التدريب العسكري في المدارس بشكل إلزامي وبما يعادل حصة درسية أسبوعية تعلم فيها التلاميذ النظام المنضم والمعلومات النظرية والعملية والرمي بالأسلحة الفردية بإدارة من وزارة المعارف.

وكانت المدارس تقيم جلسات التدريب العملية في الملعب البلدي بدمشق – مكان دار الأوبرا اليوم -، وكان ذلك التكريس امتداداً لما قد تم تفعيله وافتتاحه عام 1955 بما يعرف بـ هيئة المقاومة الشعبية، ومراكز التدريب العسكري الشعبي، إضافة لفعاليات مختلفة أقيمت آنذاك كأسبوع التسلح وسواها.

بقي تعليم التربية العسكرية ونظام الفتوّة هذا سارياً طوال تلك السنوات وكان مناطاً بوزارة المعارف، – التي تغير اسمها بعد الوحدة ليصبح وزارة التربية والتعليم – ، وتم تكريسه بشكل أكبر بعد عام 1963 إذ تم فرض اللباس عسكري التصميم باللون الكحلي للمرحلة الإعدادية، واللون البيج للمرحلة الثانوية كلباس مدرسيّ موحد، وفي نهاية السبعينات أنيط باتحاد شبيبة الثورة مهمة الإشراف على مادة التربية العسكرية ومعسكراتها في المدارس وذلك بعد إحداث مكتب التربية العسكرية أواخر عام 1979، ومنذ ذلك الحين اعتمدت المنظمة مفهوم “الإعداد النضالي” أحد أساليب العمل الذي ضمنته بمنهاجها الدائم.

باشر الاتحاد إلى جانب الإشراف على حصص التربية العسكرية في المدارس، بتنفيذ معسكرات الإعداد النضالي “معسكرات المرحلة الثانوية الإلزامية” إضافة لافتتاح دورات تدريب القفز المظلي الطوعية مع بداية الثمانينيات إذ افتتحت أول دورة عام 1980 ليكون مجموع دورات القفز المظلي خمسة كان آخرها في عام 1990، وإلى جانب دورات القفز المظلي، افتتح الاتحاد معسكرات الصاعقة الطوعية التي كانت تقام سنوياً حتى عام 2003، وفي أواسط الثمانينيات تم اعتماد اللباس عسكري التصميم لكن باللون الزيتي “الخاكي” هذه المرة للمرحلتين الإعدادية والثانوية، وبقي كذلك حتى عام 2003 ذلك العام الذي ألغيت فيه التربية العسكرية والبزات العسكرية، وكل ما يمت للعسكرتاريا بصلة في مدارس سورية، وذلك في إطار الانفتاح والتغيير الذي كانت تشهده البلاد.

أوردت في هذه التدوينة توصيفاً دون الدخول بنقد التجربة من عدمها، ودون الدخول بأسبابها وموجباتها، فوجب التنويه.


نشرت هذه التدوينة في مدونة الشأن العام بتاريخ 25 أيار 2020

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى