قضايا راهنة

سورية والإجراءات القسرية أحادية الجانب .. تجويع وقتل بطيء للشعب السوري!

تعتبر العقوبات الاقتصادية واحدة من الاستراتيجيات الأساسية التي تقوم عليها السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وتندرج هذه العقوبات كما تفسرها التشريعات الأمريكية تحت ما اصطلح على تسميته “العقوبات خارج الحدود الوطنية extraterritorial sanctions ” وهي استراتيجية تنتهجها الولايات المتحدة ضد كل الدول المعارضة لسياسات واشنطن منذ تأسيس الولايات المتحدة وحتى اليوم. وقد ازدادت ممارسة الولايات المتحدة لهذه الاستراتيجية بشكل مفرط خلال العقود القليلة الماضية مستفيدة من عدة عوامل أبرزها تحَكّمها بالاقتصاد العالمي. وأخذ ما يسمى بـ “مكتب مراقبة الأصول الأجنبية OFAC ” يمارس دور الرقيب والشرطي الأمين على تنفيذ هذه الاستراتيجية وتطبيق القرارات والأوامر التنفيذية المتعلقة بها. على أنّ هذه العقوبات بمفهوم القانون الدولي والمواثيق الدولية تسمى اصطلاحاً بالإجراءات القسرية أحادية الجانب.

ولسنوات طوال، عانى السوريون من إجراءات قسرية أحادية الجانب تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بهدف الضغط على الحكومة السورية، لأسباب “إنسانية وأسباب تتعلق بالديمقراطية والحريات” على حد تعبير الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وفي واقع الأمر أن هذه الإجراءات ليست جديدة على الشعب السوري الذي كان يتأقلم معها مثلما كانت الحكومات السورية المتعاقبة تلتف عليها لتأمين قوت يوم الشعب السوري.

العقوبات الأولى

فرضت الولايات المتحدة الأمريكية الإجراءات القسرية أحادية الجانب على سورية منذ عام 1979 إذ تم اعتبار سورية آنذاك إحدى الدول الداعمة للإرهاب، وآتى ذلك كرد من الأمريكيين على موقف سورية من الثورة الإسلامية في إيران، وطالت حزمة الإجراءات تلك حظر تصدير أي من السلع والتكنولوجيا التي تزيد قيمتها عن 7 ملايين دولار إلى سورية، وطالت تلك الإجراءات حظراً تكنولوجياً شمل كافة السلع والتجهيزات التي تحتوي على مكونات أمريكية الصنع بأكثر من نسبة 10%. وبطبيعة الحال فقد طال الحظر آنذاك سلعاً تقنية وبرمجية وأخرى متعلقة بصناعة النفط والغاز، إضافة لطيف واسع من المعدات الطبية والأدوية والمكونات الكيميائية والمعدات الإلكترونية والسيارات.

لكن الحكومة السورية آنذاك استطاعت في أواسط الثمانينيات من ابتكار حلول للهروب من تلك الإجراءات والالتفاف عليها بعد معاناة كبيرة جراء تطبيقها، عبر الاعتماد على الشركات الصغيرة ومتناهية الصغر وعلى صغار التجار في تأمين السلع والخدمات، كما استطاعت تأمين العديد من السلع والتجهيزات ووسائل الإنتاج من دول بديلة، حتى أتى عقد التسعينيات لتعتمد سورية نظاماً اقتصادياً قائماً على الاكتفاء الذاتي عبر الانفتاح على تأسيس صناعة سورية بديلة من خلال القانون الشهير رقم 10 المعني بالاستثمار.

العقوبات بعد غزو العراق

بعد أحداث 11 أيلول 2001 وحرب العراق 2003، حاولت الولايات المتحدة ممارسة ضغوط كبيرة على الحكومة السورية بملفات سياسية تتعلق بخيارات الحكومة السورية في علاقاتها الإقليمية والدولية، وتوّجت تلك الضغوط بفرض ما يسمى قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان والذي أورد في أسباب صدوره الكثير مما لا مكان لذكره في مقالنا هذا. ونتيجة هذا القانون فرضت الولايات المتحدة حزمة جديدة من الإجراءات القسرية أحادية الجانب.

كان من أبرز ما طالته تلك الإجراءات في عام 2004 حظراً على معظم الصادرات إلى سورية عدا الطعام والدواء، وحظراً على الشركات الأميركية التي تعمل أو تستثمر في سوريا، وحظراً على سفر الأميركيين على متن طائرات سورية، وخفض العلاقات الدبلوماسية، وقيوداً على سفر الدبلوماسيين السوريين إلى الولايات المتحدة وتقييداً لحركتهم داخل الولايات المتحدة، ومنع التحويلات للممتلكات السورية. وقد قامت كل الإدارات الأمريكية المتلاحقة بتجديد هذه الإجراءات، إضافة لوضع كيانات سورية كالبنك التجاري السوري، وأشخاص سوريين على لوائح تلك الإجراءات بين فينة وأخرى بين عامي 2004 و.2011

بعد اندلاع الحرب السورية

مع بدء الحرب السورية فُرضت في عام 2011 وما تلاه مجموعة من الإجراءات والقرارات التي تفرض قيوداً جديدة وإجراءات اقتصادية تجاه أشخاص حكوميين أو مرتبطين بالحكومة السورية، وتجاه مؤسسات سورية حكومية وخاصة، لعل أكثرها سوءاً هو ذلك الأمر التنفيذي ذي الرقم 13608 والذي يمنع كافة التعاملات والصفقات التي تتضمن أشخاصاً تمّت الإشارة إليهم في الأمر التنفيذي من التعامل مع أي سلعة أو خدمة أو تكنولوجيا في الولايات المتحدة أو تتعلق بالولايات المتحدة أو أي شخص أو شركة أمريكية أينما وجدت، وحيث أن تلك القوائم من الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين تتضمن وزراء ورجال أعمال وفاعلين مرتبطين بالحكومة، إلا أنها تضمنّت مؤسسات حيوية كمصرف سورية المركزي ومؤسسات خدمية وتجارية ومصارف ومصانع عديدة تلبي الاحتياجات اليومية للشعب السور. وفرضت بعدها العديد من القيود في قطاعات النفط والنقل والطاقة وقطاعات حيوية أخرى. واستمر صدور القوائم التي تتضمن أسماء أشخاص وكيانات طوال السنوات التسع الماضية بتحريض ومناصرة من مجموعات سورية معارضة موجودة في واشنطن، تقوم بتقديم قوائم الأسماء والكيانات تلك ومسببات معاقبتها لسيناتورات الكونغرس الأمريكي وصناع القرار هناك.

وقد لحق الاتحاد الأوروبي بركب الأمريكيين في فرض الإجراءات القسرية أحادية الجانب ففرض عشرات القيود الاقتصادية على سورية، بمشيئته أحياناً، وبتحريض أمريكي أحياناً أخرى، وتجلى ذلك بصورة فجّة في الضغوطات التي مارسها جيمس جيفري الممثل الأمريكي الخاص لشؤون سورية في الإدارة الأمريكية على الاتحاد الأوروبي مؤخراً لاتخاذ إجراءات جديدة حيال الحكومة السورية بالموازاة مع صدور قانون سيزر واقتراب موعد نفاذه والذي يعدّ الأقسى والأكثر إجراماً بحق الشعب السوري ومستقبله وسبل عيشه.

الشعب المتضرر الأكبر

وفي الحديث عن تأثير تلك الإجراءات القسرية أحادية الجانب، يدّعي الأمريكيون ومن ورائهم الأوربيين دائماً، ومعظم مجموعات ضغط المعارضة السورية التي تشجّع الأمريكيين والأوروبيين على فرض المزيد منها، والتي تمدّهم دائماً بذرائع ومسببات تلك الإجراءات، بأنّ تلك الإجراءات لا تستهدف الشعب السوري ولقمة عيشه وسبل حياته، إنما تستهدف ما تسميه “النظام” بغية الضغط عليه لتقديم تنازلات سياسية في الملف السياسي. وعلى الرغم من أن لوائح الإجراءات تلك تنصّ على طيف من الاستثناءات التي تتعلق بالتحويلات المالية الشخصية شريطة ألا تمرّ عبر مصرف سورية المركزي، واستثناءات تتعلق بالغذاء والدواء والمعدات الطبية، والأموال والخدمات المتعلقة بالجهود الإنسانية إلا أن الواقع غير ذلك.

لقد أدّى ضمان توافقية المصارف الدولية مع متطلبات برنامج الإجراءات القسرية أحادية الجانب سواء الأمريكية أو الأوربية منها إلى تقييد التعاملات المالية والتجارية للمؤسسات المالية الدولية مع كل ما هو يرتبط بسورية أو بأي فرد أو مؤسسة سورية، وأدى ذلك إلى وجود صعوبات بالغة للغاية في تأمين احتياجات المواطنين السوريين من الغذاء والدواء ومستلزمات الإنتاج وسبل العيش، وفي هذا السياق هناك عشرات الأمثلة عن مقاطعة شركات طبية وغذائية لكل ما يتعلق بسورية منذ بدء تنفيذ هذه الإجراءات، في حين كانت تلك الشركات ترتبط مع سورية بعقود لتوريد لقاحات وأدوية ومواد فعالة ومواد تدخل في صناعة الغذائيات وقطع غيار ومستلزمات إنتاج لسنوات طويلة سبقت الحرب. هذه التفاصيل جعلت من كل الاستثناءات التي أدرجها الأمريكيون والأوربيون في لوائح إجراءاتهم القسرية بلا أي معنى، لأن أصل تلك الإجراءات وروحها يأتي في القيود المالية والمصرفية الموضوعة في تلك اللوائح. لذلك فإن رفع القيود عن الاقتصاد السوري ليست مسألة تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، إنّما هي مسألة اجتماعية ومعيشية بالدرجة الأولى.

وبعيداً عن الغذاء والدواء، فإن الأمريكيين والأوروبيين كانوا قد فرضوا قيوداً صارمة على قطاعات حساسة مثل الطاقة الكهربائية ومحطات الصرف الصحي، والشبكات الطرقية والكثير من الخدمات الاجتماعية الواسعة، مما أدخل الحكومة بمتاهات ومغامرات كبيرة لتأمين مشتقات النفط وقطع تبديل محطات الكهرباء وغيرها، وهذا أدى بالضرورة لتضخم كبير في أسعار كل المواد المصنّعة داخل سورية نتيجة لارتفاع تكاليف استجرار هذه المواد، عدا عن وجود شحّ في مستلزمات التدفئة والنقل وتشغيل الكهرباء وارتفاع أسعارها أيضاً، وهو ما شكل أعباء اقتصادية غير مسبوقة للشعب السوري. وبينما تقوم الولايات المتحدة بدور شرطي البحر، وتجول دورياتها في البحر الأبيض المتوسط لمطاردة وإيقاف ومصادرة لأي ناقلة نفط يُشك لمجرد الشك أنها تتوجه إلى سورية، فإنها في الوقت ذاته تحتلّ حقول النفط الموجودة في شمال الشرق السوري إذ تستخرج النفط منها، تبيعه وتسوّقه، وتُدخل إيراداته في ميزانيتها أو تمنحها على شكل مساعدات وهبات لمجموعات تعادي سورية والحكومة السورية.

لقد استطاع قطاع الأعمال السوري خلال السنوات الماضية وفي كثير من الأحيان التكيف والتعامل الذكي مع تلك الإجراءات القسرية أحادية الجانب، مثلما حاولت وتحاول الحكومة السورية مراراً لإيجاد حلول وبدائل لتأمين متطلّبات العيش الكريم للشعب السوري الذي يعاني كثيراً من هذه الإجراءات، ومع استمرار الضغوطات الأمريكية والغربية على سورية، ومع فرض مزيد من الإجراءات القسرية أحادية الجانب والتي تكللت بـ “قانون سيزر” ستشتدّ الأزمة الاقتصادية على السوريين، فالقانون لم يأتِ بأشياء جديدة أو بقيود جديدة على الاقتصاد السوري الذي يعاني أساساً من قرارات سابقة، بل هو موجه لأي دولة أو شركة أو كيان يقوم بمساعدة الشعب السوري من خارج الحدود والأطر التي تقررها الإدارة الأمريكية، وهذا يحتاج لمقال آخر لشرحه.

مؤخراً دعت حملات عديدة دولية وإقليمية ومحلية، ووُجّهت دعوات كبيرة للمجتمع الدولي بضرورة الدفع باتجاه رفع الإجراءات القسرية أحادية الجانب بسبب جائحة كوفيد-19 وذلك بغية مساعدة سورية والدول التي تعاني من إجراءات مشابهة على التصدّي لهذه الجائحة والتعامل معها، فأتت ردود الأمريكيين بفرض وتجديد المزيد من الإجراءات، متذرّعين تارة بأن كل الإجراءات القسرية أحادية الجانب تستثني الغذاء والدواء، وبقيامهم بتقديم مساعدات للتصدّي لهذا المرض تارة أخرى، وهي تبريرات واهية لا تمت للواقع بصلة.

وفي نهاية الأمر تمارس الولايات المتحدة الأمريكية، سياسة الضغط على الحكومة السورية من خلال الإجراءات القسرية أحادية الجانب، لأنها تعتقد هذه الإجراءات ستقوم بإضعاف الحكومة وتدفعها لتقديم تنازلات،أو ستؤدي على الأقل لانهيار نظام الحكم في دمشق على المدى الطويل، أو انتزاع دور في الحلّ السياسي بسورية. بالتالي تشكّل هذه الإجراءات وسيلة للابتزاز السياسي عبر الضغط الاقتصادي المجتمعي وسياسة التجويع وتجد لدى مجموعات المعارضة الضاغطة التبريرات لذلك، وقد أثبتت كل الإجراءات القسرية أحادية الجانب التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية من خارج إطار منظومة الأمم المتحدة على مختلف بلدان العالم خلال الأعوام السابقة، أو حتى تلك العقوبات التي فرضت بإطار الأمم المتحدة، أنها لا تؤدي إلا لإفقار وتجويع الشعوب وانهيار المجتمعات، ولا تؤدي إلى الضغط على الأنظمة السياسية أو إسقاطها، ولنا في العراق وليبيا نماذج ماثلة للعيان من المستقبل القريب، وعلى هذا المقياس نقيس، تلك الإجراءات الأمريكية المبررة بالتشريع الأمريكي تحت مسمى “العقوبات خارج الحدود الوطنية” لا تمثّل إلا جريمة قتل بطيء بحق الشعب السوري، الشعب الذي تدّعي الولايات المتحدة الدفاع عنه وعن حريته ومصالحه وعيشه الكريم.


نشرت في العدد الثاني من صحيفة الخندق أيار 2020 – المزيد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى