التصنيف: المحتوى الرقمي العربي

  • عندما تتحول القصة الشعبية والشائعة إلى مصدر لحدث تاريخي هام!

    عندما تتحول القصة الشعبية والشائعة إلى مصدر لحدث تاريخي هام!

    .قبل أسابيع قليلة انتشر خبر على لسان صحيفة “نيويورك تايمز” الشهيرة مفاده بأن دولة الكيان الصهيوني تقوم ببناء مخيمات للاجئين اللبنانيين الذين لا بد وأنهم – نتيجة للأوضاع الاقتصادية المهترئة في لبنان، ونتيجة للانهيار الاجتماعي الحاصل هناك – سيفرون إلى شمال فلسطين المحتلّة هاربين من الواقع الكارثي الموجود في بلدهم الأم. وحصل أن تناقل ناشطون هذا الخبر بكثافة عبر مجموعات “الواتسآب” وفي صفحات “الفيسبوك”، وأجريت حوله نقاشات على منصة “كلوب هاوس”، وذهب بعض المحللين الاستراتيجيين لتداوله عبر لقاءاتهم الإعلامية على الفضائيات. لم يكلّف أحدٌ ممن نشر الخبر وتداوله نفسه عناء أن يتصفح موقع “النيويورك تايمز” نفسه ويطالع الخبر الذي لا وجود له أصلاً.

    ظاهرة راسخة

    هذه الظاهرة تكاد تكون عادة راسخة في عالمنا العربي، وهي تحصل في كل يوم وفي كل ساعة عندما يقوم أحدهم باستقبال خبر أو منشور ويقوم بإعادة توجيهه لثلة من الأصدقاء، فيخرج أحد علينا ليقول بأن حصل على معلومة من مصدر موثوق. وقد حصل أنني ذات يوم كنت حاضراً في ندوة حوارية حول السياسة الخارجية السورية والأزمة السورية لشخصية مخضرمة معروفة في الوسط السياسي والإعلامي، وتناولت تلك الشخصية في معرض كلامها لقاءاً حديثاً أجراه “هنري كسينجر” أشهر وزراء الخارجية الأمريكيين السابقين وعراب السياسة الخارجية الأمريكية لسنوات مع مجلة “نيويوركر” الأمريكية، قائلاً على لسان “كسنجر” أشياء لا تدخل بعقل قارئ نهم أو باحث مختص في شؤون العلاقات الدولية، ولا تنطلي على من قرأ سيرته وكتبه وبحث فيها. كان مصدر تلك المعلومات التي وردت على لسان المحاضر من منشور تم تداوله عبر التواصل الاجتماعي، وكان فيها الكثير من المديح للقيادة السورية والسياسة الخارجية في سورية، الشيء الذي لا يمكن أن يقال على لسان ثعلب مثل “كيسنجر”.

    أثناء تلك الندوة قررت أن أناقش ذلك المحاضر بما قال، وقبل أخذ الإذن في النقاش تناولت هاتفي المحمول وتصفحت موقع مجلة “نيويوركر” ليتبين ألا وجود لأي مما ذكر في الحديث، والأكثر من ذلك أنه في ذلك الوقت لم يكن “كيسنجر” ذات نفسه قد أجرى أي لقاء أو مقابلة أو أعطى أي تصريح لتلك المجلة العريقة منذ سنوات بعيدة، كنت متأكداً من ذلك قبل أن أبحث لكن الأمر كان يستحق المغامرة!! فناقشت تلك الشخصية بأن جزء مما ورد على لسانه لا أصل له، فارتبك وكان رده بأنه حتى ولو لم يكن كلامه صحيحاً فإن ما قيل هو حقائق دامغة!

    مذكرات السياسيين مسارح للخيال

    بمثل هذه اللقاءات والمعلومات الملفقة والمستقاة من مصادر غير دقيقة تنتشر الأخبار الزائفة والإشاعات والمقولات التي لا أصل لها، ويتداولها الناس كما يتداولون القصص والنوادر الشعبية، فعلى سبيل المثال، وفي غمرة الدفق الكثيف القادم من وسائل التواصل الاجتماعي، قد نقرأ منشوراً عن معلومات وردت في مذكرات “بل كلنتون” أو مذكرات زوجته “هيلاري” وهي غير موجودة أصلاً أو أتت في سياق مختلف تماماً في تلك المذكرات عما يبتغيه مؤلفها أو من يحدث الناس فيها، والمشكلة تكمن في أن المذكرات تلك موجودة وفي متناول اليد ليست بعيدة المنال، لكن لا يكلّف أحد ما  عناء نفسه التأكد منها قبل أن يقوم بالضغط على زر “مشاركة” ! لغياب الوعي من جهة ولأن الناشر الأول قد يكون موقعاً رصيناً أو صفحة الكترونية أو حتى وسيلة إعلام محترمة أو شخصيات عامة تعمل في الشأن العام قامت ببناء مصداقية لدى الجمهور، فوقعت ضحية تضليل ما، ونسيت أو ربما تناست أن تتقصى صحة المعلومة، لأن المعلومة بحد ذاتها تخدم قضية الشخص أو المنصة الناشرة.

    وثيقة لا وجود لها

    وإذا أردنا التعمق في الموضوع بشكل أكبر باحثين عن أمثلة  لوجدنا أن واحدة من أشهر الوثائق التي تبناها كثرٌ من المفكرين الذين بحثوا وكتبوا بتاريخ القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني وتبنتها تيارات وأحزاب ومنظمات في أدبياتهاوهي ما تعرف بـوثيقة “كامبل بنرمان” هي وثيقة لا وجود لها بشكل نصّي أو وثائقي أو كمصدر علمّي موثق كما هو معروف، فتلك الوثيقة “السرية” قيل أنه تم تبنيها في المؤتمر الاستعماري الامبريالي البريطاني عام 1907، وبني عليها الكثير  من الروايات والكتب والأبحاث والأعمال الأكاديمية، وكانت أينما وجدت في عمل أكاديمي أو كتاب أو دراسة تُحال إلى مصدر في كتاب أو بحث سبقه، ولم يشر أحد إلى الوثيقة الأصلية، على الرغم من أنالمعاني والدلالات والمعلومات المنسوبة إليها كانت قد وردت في كثير من الأدبيات والنصوص والمذكرات الصهيونية والبريطانية الاستعمارية آنذاك، لكن لا وجود لهذه الوثيقة في أي أرشيف أو مكتبة وثائق بريطانية أو غربية  ولا ذكر لها أو لأي إشارة تخصها  حتى في كتب السير والمذكرات ولا في الصحف الصادرة آنذاك . هذه النتيجة حصل عليها الباحث والمفكر أنيس صايغ، الذي بذل مجهوداً كبيراً للكشف عن أصل وأساس هذه الوثيقة وأورد تفاصيل رحلة البحث عن أصل هذه الوثيقة في مذكراته، حيث توصّل بعد رحلة شاقّة من البحث من لقاء أول من تحدّث عن هذه الوثيقة في كتاب منشور وقد قال له أنه التقى رجلاً هندي الجنسية على الطائرة في الطريق من فلسطين إلى لندن، وروى له عن الوثيقة وعن المؤتمر الاستعماري الامبريالي الذي حضره عشرات العلماء والمفكرين والسياسيين واتفقوا على إقامة دولة لليهود وتقسيم الدول العربية، وانتهى اللقاء بتبني ذلك الكاتب للرواية دون أن يزوده الرجل الهندي بأي مرجع أصلي للوثيقة أو المقررات!. بطبيعة الحال لا ننفي في هذا المقال حقيقة ما ورد فيما يسمى “وثيقة كامبل بنرمان”، وقد أثبتت الأيام صحة محتوى ما يشاع أنه ورد فيها، لكن عدم وجود دليل محسوس يجعل من عملية البحث التاريخي ألعوبة، ويجعل من أبحاثنا التاريخية مجرد حلقات بحث لهواة يحملون أسماء كبيرة في تأصيل التاريخ والبحث العلمي التاريخي.

    سوالف شعبية من صفحات التاريخ

    وإذا ابتعدنا عن التاريخ المتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، واتجهنا إلى تاريخنا الحديث المليء بنوادر وقصص من هذا القبيل، فسنجد عشرات القصص المتداولة وغير المسندة إلى أي سند صحيح أو وثيقة على الرغم من وجود ما يدحض وجودها جملة وتفصيلاً عدا عن أنها بعيدة عن المنطق، فعلى سبيل المثال هناك قصة متداولة وتروى بكثرة في الصحف والكتب والأبحاث وعلى صفحات التواصل الاجتماعي حول دخول زيارة الجنرال “غورو” لقبر صلاح الدين الأيوبي عند دخوله إلى دمشق قائلاً له “هاقد عدنا يا صلاح الدين”، هذه القصة على الرغم من إمكانية حصولها وربما تكون قد حصلت، لكن لا يوجد لها أي سند في الكتب أو الصحف أو حتى في التأريخ الشفوي الموجود من تلك المرحلة، إنما المرة الوحيدة التي وردت فيها معلومة مشابهة كانت في مذكرات ضابط فرنسي لم يذكر بها “غورو” أصلاً، مع العلم بأن “غورو” كان رجل بروبغندا  ومصور هاوٍ يقوم بالتقاط الصور أينما حلّ، ولا وجود لصورة له في ضريح صلاح الدين !!  وهنا نحن لا ندافع عنه ولا ندحض المعلومة بقدر ما نقول إن هذه المعلومات المنسوبة له غير موثقة وغير دقيقة. وهناك العشرات من السوالف الشعبية والقصص كقصة “غورو” عن أحداث وزعماء وطنيين وتفاصيل ومعارك بما فيها روايات مفصّلة عن الاستقلال تحولت إلى تاريخ يرويه الناس ويتم تداولها على أنها جزء أساسي من التاريخ الحديث والمعاصر وهي قصص لا تأصيل لها من التاريخ والحديث والمعاصر، ولا دليل على حصولها يتناقلها الناس جيلاً بعد جيل، ومن أقل الناس علماً حتى أعظمهم مكانة علميّة وبحثية، وهذا الأمر يندرج  بشكل أكبر على التاريخ القديم والوسيط والحديث أيضاً.

    كي لا تتحول الشائعات إلى حقائق تاريخية

    نروي هذه الأمثلة  لنقول بأن انتشار الشائعات والأخبار والأحداث المغلوطة قد يجعلها حقائق تاريخي، وهذه دروس ينبغي أن نتعلم منها ونعيها تماماً لأنه من المعيب ونحن نعيش بهذا العصر أمام ما نتعرض له اليوم من دفق آت من الانترنت ومجتمع المعلومات المفتوح أن تمر قصصاً وروايات غير صحيحة وترسخ على أنها أحداث تاريخية، وبالتالي نحن نحتاج إلى وعي رقمي من نوع آخر، فالمصادر موجودة والبحث للتأكد عن صحة المعلومة بات بسيطاً وسهلاً وليس بمتناول اليد فقط، بل باليد من خلال الأجهزة الجوالة والحواسب اللوحية وغيرها من الأدوات الذكية التي تحيط بنا ونتعامل معها على مدار الساعة والدقيقة. وعندما نتحدث عن الجيل الرابع للحروب وعن الشائعات وطرق دحضها علينا أن نعي بأن مكافحة الأخبار المغلوطة هو واجب على الأكاديميين والباحثين وناشطي الشأن العام والمؤثرين الذي يعتلون المنابر ويخاطبون الناس ويوجهون الرأي العام، لا أن يتناقلوها دون التأكد منها وبالتالي يرسخوها كحقائق وأحداث تاريخية يتداولها العامة، وعلى المؤسسات الإعلامية  العمل على تثقيف الناس بمصادر المعلومات الأصلية، فمقال مترجم على موقع غير مشهور، لا يعني أن المقال موجود في مصدره الأم المذكور أصلاً، ومقال آخر يحتوي على معلومات مصدرها موقع “ويكيبيديا” ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً ومؤصلاً ومسنداً لأنه موقع مفتوح يحرره أي شخص كان،  وكلام صريح عن مؤتمر مبهم هنا أو اجتماع سري هناك دون إثبات أو وثيقة أصلية لا ينفي ولا يثبت قيام الاجتماع أو المؤتمر، لكن لا يجعل من هذا الاجتماع أو المؤتمر حدثاً تاريخياً يبنى عليه وعي جمعيّ للجمهور، وهو ما صار عادة أصيلة في إعلامنا العربي وعلى لسان مؤثرينا في السياسة والاقتصاد والفن والاجتماع، وهو أمر في غاية الخطورة والقبح حتى وإن كانت المعلومات غير الصحيحة أو غير الموثقة أو غير المسندة تخدم قضايانا وتتحدث باسمنا.


    ،ُشر في عدد شهر آب 2021 من صحيفة الخندق

  • إعلامُ العصر الجديد: تشويهٌ على وقع الحداثة

    إعلامُ العصر الجديد: تشويهٌ على وقع الحداثة

    قبل أسابيع قليلة، أوصلني البحثُ عن شيءٍ ما على الشبكات الاجتماعيّة إلى صفحةِ ناشطةٍ إعلاميّةٍ سوريّةٍ مقيمةٍ في أوروبا، تبثّ الفيديوهات المباشرة عند كلّ استحقاقٍ ومناسبة. كانت تلك الناشطة، الشهيرةُ بإثارتها للجدل بين الحين والآخر، قد نشرتْ شريطَ فيديو تحكي فيه موقفَها من قضيّة الجولان العربيّ السوريّ المحتلّ، وذلك بمناسبة إعلان الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب اعترافَ الولايات المتحدة بسيادة الكيان الصهيونيّ على الجولان. وقد كان وقعُ الكلام الذي تفوّهتْ به ثقيلًا على مسمعي، إذ قامت بتعريف الجولان المحتلّ بأنّه “منطقة جغرافيّة تقع بين إسرائيل وسوريّة، وهي أراضٍ متنازَعٌ عليها منذ زمنٍ بعيد، وملْكيّةُ أراضي هذه المنطقة مجهولةُ العائديّة، تحتوي على منطقةٍ منزوعةِ السلاح، وأخرى تحت السيادة الإسرائيليّة.”[1]

    ليست المشكلة في الناشطة نفسها، بل في الكلام الذي ورد على لسانها في هذا الفيديو، وفي فيديو آخر يتحدّث عن “إسرائيل” بكثيرٍ من السطحيّة وعشراتِ المغالطات والأضاليل.[2] ومَن يتأمّل العبارةَ أعلاه لا يجد نسفًا تامًّا للحقيقة فحسب، بل يجد أيضًا تماهيًا مطلقًا مع رواياتٍ إسرائيليّةٍ عن هذه القضيّة وغيرها من القضايا. ويصل إعجابُها حدَّ تصريحها بأنّها تتمنّى الحصولَ على الجنسيّة الإسرائيليّة، والذهابَ للعيش هناك ربّما.

    لكنْ، ما علاقةُ ما قامت به تلك الناشطةُ بالإعلام ووسائله؟ ولمَ لا يكونُ سلوكُها سلوكًا فرديًّا لا يمثِّل إلّا قلّةً قليلةً، وينمّ عن جهلٍ وضحالةٍ وفراغ، لا عن موقفٍ مبنيٍّ على معلومات دقيقة وأصليّة؟

    تشير الأرقامُ الواضحة في فيسبوك ويوتيوب أنّ مجموعَ مشاهَدات الفيديوهيْن الآنفَي الذكر أكثرُ من خمسين ألف مشاهَدة، عدا عن عدد متابعين لا يقلّ عن 120 ألف متابع. وواقعُ الأمر أنّ هذا هو عصرُ الإعلام الجديد، الناتج من ثورة المعلومات التي تضخّمتْ خلال السنوات القليلة الماضية، ورافقت “الربيعَ العربيَّ” في كلّ تفاصيله. ونجاحُ هذا النمط من الإعلام كان مرهونًا دائمًا بأفرادٍ يحملون خطابًا منفلتًا لا ضوابطَ له، وبفضاءٍ مفتوحٍ لكلّ فئات الجمهور.

    هذا عصرُ الإعلا م الجديد، الناتج من ثورة المعلومات
    هذا عصرُ الإعلام الجديد، الناتج من ثورة المعلومات

    تطبيعٌ بالمجّان

    لم تكن تلك الناشطةُ هي الوحيدةَ التي تتحدّث بهذه السطحيّة عن الصراع العربيّ – الإسرائيليّ. فالمدوَّنات العربيّة، وقنواتُ اليوتيوب، وصفحاتُ الفيسبوك، مليئةٌ بالمقالات ومقاطعِ الفيديو والصورِ والمعلوماتِ التي تحمل مغالطاتٍ كبرى عن هذا الصراع. وهي تروي ما تسمّيه “حقائق،” ولكنّها في الواقع قائمةٌ على رواياتٍ لا أصلَ لها، أو من خلال صفحاتٍ من كتبٍ أو مذكّرات لأشخاصٍ دون غيرهم، مجتزأةٍ أو منقوصة. وبات من السهل على المتابع أن يقرأ مقالًا في إحدى أشهر الخدمات الإعلاميّة العربيّة، بقلم كاتب عربيّ،[3] يمدح فيها حالةَ التطوّر العلميّ الهائل في “اسرائيل،” واهتمامَها بالعلم، مقابلَ تجهيل الحكومات العربيّة لشعوبها على مدى عشرات الأعوام التي مضت، ناسفًا كلَّ العوامل التي ساهمتْ في الوصول إلى هذه النتائج، وعلى رأس هذه العوامل: الاستعمارُ والاحتلالُ والنهبُ الرأسماليّ.

    هذا ناهيكم بالصفحات الإسرائيليّة الوقحة، كصفحة إسرائيل بالعربيّة، أو صفحة أفيخاي أدرعي، اللتيْن تبثّان سمومًا بأشكالٍ ملوّنةٍ وجذّابة جعلتْ عشراتِ الألوف من متابعيها العرب يتجاوبون معها ويشكّلون حالةً من التطبيع، سببُه قلّةُ المعرفة أو الفضولُ… أو الاقتناعُ بما تبثّه هذه الصفحاتُ فعلًا – – وهذا هو الأخطر. ويأتي هذا الأمر في ظلّ غياب مشروع إعلاميّ عربيّ مضادّ، متفرّغٍ للتصدّي لهذه الموجات، الهادفةِ إلى إحداث تغييرٍ في عقول الأجيال الجديدة، وتشكيل وعيٍ قائمٍ على التطبيع المجّانيّ بشكلٍ تامّ.

    ولم يقتصر هذا الأمر على المواقع والصفحات الإلكترونيّة، بل تعدّاه إلى الفضائيّات العربيّة. فهذه باتت ــ تحت وطأة الصراعات البينيّة العربيّة، والصراع مع إيران ــ تُغّير في خطابها الإعلاميّ تجاه المسألة الفلسطينيّة وقضايا الصراع مع العدوّ الإسرائيليّ. ويتجلّى هذا الأمر، مثلًا، في استضافة مسؤولين ومحلّلين إسرائيليين بشكلٍ دائم على بعض الفضائيّات الإخباريّة العربيّة، مثل قناة الجزيرة. كما بتنا نسمع على تلك الشاشات محلِّلين عربًا يهلّلون للإسرائيليين.[4]

    تمييعُ المفاهيم

    واقعُ الأمر أنّ تغييرَ ذهنيّة المتلقّي تجاه القضايا الكبرى، كالصراع العربيّ – الصهيونيّ أو الصراع مع إيران وتركيا أو حتّى صراع الشعوب مع الأنظمة، لم تأتِ مباشرةً من خلال هذه القضايا نفسها. فلقد جرى استثمارُ العديد من قنوات الإعلام الجديد على يد السفارات والمنظّمات غير الحكوميّة، وذلك في شكل حملاتٍ إلكترونيّة تُطاول مفاهيمَ مثل “حقوق الإنسان” و”السلام” و”اللاعنف” و”حقوق الأقليّات” و”العيش المشترك” و”المواطنة العالميّة،” وغيرها من المفاهيم، النبيلةِ الظاهر، لكنها بمثابة “حقٍّ يُراد به باطل.”

    هكذا مُيّعتْ هذه المفاهيمُ والمصطلحات، وسواها، إعلاميًّا بما يتناسب مع سياسة المموِّل. وهذا الأخير لم يكتفِ بتقديم المال، بل قدّم أيضًا التدريباتِ اللازمةَ لأصحاب هذه الحملات، وقام بإلزامهم بأطرٍ عامّةٍ لإطلاق هذه المفاهيم والعمل عليها. وقد تسلّلتْ هذه المفاهيمُ إلى الوعي الجمعيّ الشبابيّ العربيّ، وباتت مقاربةُ “السلام” أو “اللاعنف” على سبيل المثال تنطبق على الصراع العربيّ – الصهيونيّ. كما بات الحديثُ عن “حقوق الأقلّيّات والفئات المستضعَفة” بابًا واسعًا يمكن الولوجُ منه إلى إشعال الثورات، وتغييرِ الأنظمة، وإحداثِ القلاقل. وجرى حرفُ بوصلةِ الصراع بالكامل لدى شرائح واسعة من الشباب العربيّ.

    تحطيمُ الرموز والثوابت

    ولم تَسْلم كثيرٌ من الرموز والثوابت، التي كانت راسخةً في الوعي الجمعيّ العربيّ، من النَّسْف، وذلك من خلال برامجَ أو تقاريرَ أو مقالات، هنا وهناك. وبجولةٍ صغيرةٍ اليوم في وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو في بعض المواقع الجديدة، ستقرأ عشراتِ المقالات التي تنال من قياداتٍ عربيّةٍ محدّدة، وتمدح أخرى. ويختلف الموضوعُ وتختلف الشخصيّةُ المستهدَفة بحسب توجّه الوسيلة وداعميها، لكنّ الواضح هو نسفُ القيادات التاريخيّة التي أحدثت فرقًا في الصراع مع الولايات المتحدة و/أو “إسرائيل” منذ بدء الصراع حتى اليوم. كما لم تَسْلم الأفكارُ القوميّةُ وتجاربُ اليسار العربيّ من الهجوم الكاسح، وكذلك التجربة الخاصّة بالثورة الفلسطينيّة أو تجربة المقاومة الوطنيّة في لبنان.

    وفي هذا الأمر، لا ننفي الحاجةَ إلى القيام بمراجعة تاريخيّة ونقديّة واسعة للموروث التاريخيّ لبلادنا. لكنّ ما يجري اليوم في “الإعلام الجديد” المذكور يهدف إلى تعويم تجارب الغرب وحدها على أنّها تجاربُ ناجحة، وإبعادِ أيّ عاملٍ تآمريّ غربيّ أو إسرائيليّ عن سياق الحدث التاريخيّ العربيّ، وإظهارِ أنّ المشكلة الحقيقيّة ماثلة في الشعوب العربية وقياداتها و”العقل العربيّ.”

    أفكار مغلوطة ومدسوسة

    كثيرة هي الأفكار الغريبة التي نقرأها كلَّ يوم في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتهدف إلى إثارة القلاقل الطائفيّة والعرقيّة من جهة، وتغييرِ الأفكار الراسخة في المجتمعات العربيّة حول عشرات القضايا من جهةٍ أخرى. ولدى البحث عن مصادر هذه الأفكار، وجدناها على شاكلة مقالات في مواقع إلكترونيّة عربيّة، مجهولة الهويّة والتابعيّة، ظهرتْ في السنوات الماضية، وتتبنّى فكرةَ التدوين الجماعيّ بهدف رفع الوعي لدى الشعوب العربيّة، ورفع سويّة المحتوى العربي على شبكة الانترنت كما تدّعي في بيانات التعريف الخاصّة بها، من دون أيّ إشارة إلى إدارة التحرير، أو الدولة التي تصدر منها، أو جنسيّة ناشري هذه المواقع.[5] هذه المواقع تضمّ كتّابًا ومدوّنين شبابًا من جميع الدول العربيّة. وعددٌ لا بأس به منهم لا يعرف أصلًا مَن يدير هذه المواقع، لكنّ ما أوصلهم إليها شغفُهم في الكتابة وبحثُهم عن منصّاتٍ تنشر أفكارَهم. وبتحليل آليّة عمل هذه المواقع، تبيّن أنّها تعمل باستراتيجيّة تمرير مقال أو مقالين أسبوعيًّا يروّجان لأفكار غريبةٍ وصادمة، مقابل عشرات المقالات الثقافيّة والعلميّة المنوَّعة والتاريخيّة، العاديّة التي تُنشر يوميًّا، وتخاطب جميعَ الشباب العربيّ.

    كثيرة هي الأفكار التي نقرأها في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتهدف إلى إثارة القلاقل

     المال يتحدّث

    هناك عدّة عوامل تحدِّد توجّهاتِ الإعلام العربيّ الجديد، ومنها مصادرُ التبنّي والتمويل. فتمويلُ هذا الإعلام اليوم، بنسبته الكبرى، يُنسب إلى قطر، التي تحاول ضمَّ أكبر شريحة من الشباب المؤثِّر تحت عباءة مشاريع “الإعلام الجديد.” وقد صرفتْ قطر أموالًا طائلةً في جذب الناشطين والإعلاميين الشباب لتأسيس منصّاتٍ مختلفةٍ تتيح هامشًا واسعًا من الحرّية، منها ما هو شخصيّ ومنها ما هو جماعيّ. وتصرّ قطر على أنّها راعي “ثورات الربيع العربيّ.” ومنصّاتُ الإعلام الجديد التي بدأتْ قطر تمويلَها منذ بدء هذا “الربيع” نتاجٌ لهذه الثورات.[6]

    وبينما لم تستطع السعوديّة أو الإمارات تأسيسَ مؤسّسات إعلام جديد توازي وتنافس ما تقوم به قطر، فإنّهما حشدتا أكبرَ جبهةٍ من الإعلام التقليديّ في وجه قطر وإيران، وقد دُفعت الملايينُ من الأموال السعوديّة للسيطرة على نسبة كبيرة من الإعلام المصريّ.[7] ومع اهتمام السعوديّة والإمارات بالإعلام التقليديّ، فإنّ ذلك لم يمنعْهما من شراء العشرات من المواقع والصحف الإلكترونيّة وتمويلها.[8] وهذه المواقع تلعب وفق السياسة الرسميّة، السعوديّة والإماراتيّة، دورًا رياديًّا في محاولات التخفيف من حدّة الصراع مع “اسرائيل.”

    على أنّ المؤسّسات المانحة الأوروبيّة والأمريكيّة، الحكوميّةَ وغيرَ الحكوميّة، تبقى اللاعبَ الأكبرَ في تمويل مبادرات الشباب في الإعلام الجديد. ونستطيع اليوم أن نلاحظَ تضاعفَ أعداد وسائل الإعلام الالكترونيّ، من صحف ومجلّات الكترونّية، وإذاعاتٍ وتلفزيوناتٍ تبثّ عبر الانترنت، إضافةً إلى المبادرات الإعلاميّة الثقافيّة. بعضُها يصرّح عن مموّليه، وبعضُها لا يصرِّح.

    هذه الوسائل والمنصّات أُسّستْ بدافع خلق لغةٍ إعلاميّةٍ بديلةٍ للإعلام الرسميّ العربيّ، أو للإعلام الموالي للسلطات العربيّة. وهي تهدف – في ظاهرها – إلى رفع سقوف القيود على حريّة التفكير والتعبير، والترويج لليبراليّة سياسيّة اقتصاديّة اجتماعيّة. لكنّها – في باطنها – تستهدف تغييرَ الوعي الجمعيّ لدى الشباب العربيّ، وتمريرَ أفكار جديدة تنسف الثوابتَ والموروثات والرموزَ، بشكلٍ ناعمٍ وغير مباشر، يَخدم أجندةَ المموِّل.

    ويكفي أن تتصفّح موقعَ أيّ مؤسّسة مانحة أوروبيّة أو أمريكيّة في واسم تقديم “طلبات التمويل” لترى أنّ تصنيفاتٍ مثل “إعلام المواطن” و”الإعلام البديل” و”وسائل الإعلام المستقلّة” واضحةٌ في طلبات التمويل وورشات العمل والزمالات والمنح.[9] وعادةً ما تُوضَع هذه الضوابطُ الفكريّة، ومدوّناتُ السلوك، وآليّاتُ الاستخدام، أثناء التدريبات المرافقة لعمليّات تأسيس هذه المشاريع. وفي غالب الأحيان يُضطر طالبُ التمويل إلى أنْ يوقّع على عقودٍ تحتوي على ضوابطَ وشروطٍ تتعلّق باللغة الإعلاميّة المستخدَمة في هذه الوسائل المستحدَثة بما لا يتعارض مع سياسات المؤسّسات المانحة تلك. وهنا تكمن خطورةُ هذه المشاريع.

    في النهاية

    يتمثّل مستقبلُ الإعلام والصحافة في الإعلام الجديد. كما يُشكّل الجيلُ الناشئ، من اليافعين والشباب، الجيلَ الأكثرَ متابعةً لوسائل التواصل الاجتماعيّ. وما نحتاجه اليوم هو برنامجٌ حقيقيّ وواضح يهدف إلى إنشاء محطّات ومبادرات توجِّه الإعلامَ الجديدَ بطريقةٍ محبّبة، وجذّابة، وذاتِ مغزًى، وفق آليّات تقوم على تحليل مضمون الدفق الحاليّ في وسائل التواصل الاجتماعيّ، والعمل على الاستفادة من ثغراتها، وقطْعِ الطريق على التوجيه الآتي من هذا الدفق، الذي لا يخدم قضايا شعوبنا، ولا يليق بإرثنا التاريخيّ وحضارتنا العريقة.

    نشرت في مجلة الآداب


    [3] بإمكانكم مراجعة حسابات ناشطين مثل عمّار عبد الحميد، أو صاموئيل تادرس، مقدِّمَيْ برنامج عمّار وسام على قناة الحرّة. وبإمكانكم الاطّلاع على آراء تادرس في التفوّق الإسرائيليّ من خلال الرابط: https://bit.ly/2ymZoei

    [5] من المواقع الشهيرة بإثارة الجدل والأفكار المغلوطة موقع دخلك بتعرف وهو منصّة تدوين جماعيّ مجهولة الهويّة والمصدر. https://dkhlak.com/

    [6]  شهدت السنواتُ الأخيرة جملةً من المنصّات الشخصيّة التي لاقت رعايةً قطريّةً، مباشرةً وغير مباشرة، مثل منصّة الدحّيح، التي تبنّتها شبكة الجزيرة، ثمّ منصّة جو شو التي تبنّتها قناةُ العربيّ.

    [9]   على سبيل المثال من الممكن الاطّلاعُ على برنامج مِنَح ما يسمّى “الصندوق الوطني للديمقراطيّة “https://www.ned.org/apply-for-grant/ar/

  • الثقافة والمحتوى الرقمي العربي على شبكة الإنترنت .. ورقة بحثية

    الثقافة والمحتوى الرقمي العربي على شبكة الإنترنت .. ورقة بحثية

    دعيت من قبل وزارة الثقافة للمشاركة بمؤتمر الثقافي السوري الأول المنعقد في مكتبة الأسد تحت شعار الهوية .. القيم .. الإنسان وذلك يومي 17 و 18 كانون الأول 2018.
    وقد تمت دعوتي للقيام ببحث حول الثقافة وصناعة المحتوى الرقمي العربي على شبكة الانترنت، وذلك ضمن محور “الثقافة وتحديات العصر الرقمي ووسائل اتصاله وسبل مواجهة الضخ الإعلامي المضلل”، وقمت بإنجاز الورقة وعرضها أثناء المؤتمر.

    حول الورقة

    تتحدث الورقة في مدخلها عن تعريف مفهوم المحتوى الرقمي ، كمخرج أساس من مخرجات استثمار شبكة المعلومات الدولية ، ثم تستعرض تجربة استخدام الإنترنت عربياً وفي سورية إذ تتناول وصف حال المحتوى الرقمي العربي عموماً ، والمحتوى الرقمي العربي الثقافي خصوصاً ، ثم تطرح إشكالية ضعف المحتوى الرقمي العربي ، لا سيما الثقافي منه مقارنة باللغات غير العربية ، لا سيما أيضاً بالنسبة لحجم المخرجات مقارنة بعدد الناطقين باللغة العربية ، مما يؤدي إلى ضعف في الحضور المعرفي العربي على الشبكة ، وبالتالي الخروج من المنافسة الحضارية التي تعيشها البشرية منذ تسارع ثورة الاتصالات وحتى اليوم .

    تأتي الورقة على ذكر البيئة التي نشأ عليها الإنترنت في سورية وآليات اسثمارها ، ثم تستعرض الورقة نماذج من المبادرات التي تناولت هذا المفهوم خلال السنوات الماضية وتقدم لاحقاً بعض النماذج من المواقع السورية الثقافية على الإنترنت لتختتم بذكر أبرز التحديات والعوائق التي واجهت وتواجه صناعة المحتوى الرقمي العربي الثقافي في سورية ، وما هي الإمكانات والفرص المتاحة لتطوير هذه الصناعة والتقدم بها عبر استخدام أدوات العصر الجديد .

    تختتم الورقة بمجموعة من التوصيات والمقترحات لاستثمار هذه الفرص بالشكل الأمثل في صناعة محتوى يخدم الثقافة
    العربية واللغة العربية في آنٍ معاً .

    لقراءة الورقة كاملةً يرجى تحميلها من الرابط التالي ..