التصنيف: إعلام

  • من خيرو الشهلة إلى “تاج الحمّال” عن الدراما والتوثيق التاريخي والأبطال الشعبيين

    من خيرو الشهلة إلى “تاج الحمّال” عن الدراما والتوثيق التاريخي والأبطال الشعبيين

    في أواخر الخمسينات، تلقى المجاهد خيرو النجار الشهير بـ خيرو الشهلة كتاباً من مدير المتحف الحربي معنوناً باسم “أرملة المرحوم خيرو الشهلة” وسُلّم الكتاب إلى السيّد خيرو نفسه، وفضّ الكتاب فوجد فيه ما يلي: ” إلى أرملة المرحوم خيرو الشهلة … تحية طيبة وبعد، يرجى إرسال مسدس المرحوم خيرو لوضعه في المتحف الحربي وشكراً” وباعتبار أنه لا يعرف الكتابة، فقد كلّف أحد معارفه بكتابة الجواب على تلك الرسالة، إذ كان جوابه” السيد مدير المتحف الحربي، تحية طيبة، إنني لا أزال على قيد الحياة، وإن مسدّسي قد بعته وصرفت قيمته على إطعام أولادي، شاكراً لكم اهتمامكم بمجاهديكم … خيرو الشهلة”

    خيرو الشهلة

    كان خيرو الشهلة من أبرز شباب ثورة حمص ضد الفرنسيين في العشرينات والثلاثينات وحتى الاستقلال، ولعل أبرز ما قام من أعمال جليلة هو أن قام عام 1926 بقتل متصّرف حمص الذي كان سبباً مباشراً في جور الفرنسيين على أهالي المدينة، و كان المحرض الأبرز لإعدام عدد من خيرة شباب حمص من ضمنهم شقيق خيرو نفسه. أقدم الشهلة على قتل المتصرّف آنذاك، وكانت تلك الحادثة فاتحة لانضمامه لخلايا الثورة في حمص، ليكون واحداً من منتسبي الخلايا السرية التي كانت تقاوم فرنسا وعملاؤها آنذاك.

    مات خيرو الشهلة بعد تلك الرسالة التي وصلته بسنوات، وكان كل من دبّ على أرض حمص من جيله والجيل الذي تلاه يعرفون ما قدّم هو ورفاقه أثناء الثورة السورية الكبرى وما تلاها من نضال وكفاح ضد المستعمرين الفرنسيين، ولمّا مات كان في جنازته سبعة عشر شخصاً فقط !

    رجال من بلدي

    كنت قد قرأت هذه القصة في أوراق جدي الذي أحمل اسمه قاسم الشاغوري. وعدت لأتذكرها وأطالعها أثناء متابعتي لمسلسل “تاج” الذي عرض مؤخراً، والذي يروي قصة بطل شعبي أسماه المؤلف “تاج الحمال” وبنى له سرديّة دارت حولها أحداث المسلسل الشيّق إلى جانب ثلة من الشباب المناضلين المنتمين لتنظيم القمصان الحديدية، من بينهم “سليم” الصحفي المغامر المقرّب من الكتلة الوطنية ومن المجاهدين آنذاك.

    قاسم الشاغوري

    كان جدي صحفياً ومراسلاً لعدة صحف، وكان من أنصار الكتلة الوطنية في العشرينات والثلاثينات، وعندما تحولّت الكتلة إلى “الحزب الوطني” دعي للانتساب إلى الحزب العتيد فاعتذر عن الانضمام  لأنه بحسب أوراقه؛ كان يعتقد أنه إذا كان الواجب يحتم عليه الانخراط بالعمل الوطني، فللسياسة أهلها وتحتاج إلى موهبة وكفاءة وعلم كان يعتقد أنه لا يمتلكها!  وفي سياق عمله الوطني كان عضواً في جمعية سرية ذات عدة خلايا من الشباب، وكان لهم تنظيمهم وقَسَمهم الخاص ومقراً كانوا يستخدمونه للاجتماعات، وكانوا يصدرون المناشير ويوزعوها على المحال والحوانيت، بينما كان زملاؤهم يقومون بأعمال المقاومة ضد المحتل، وكانوا يحملون ميداليات خاصة يعلقونها على صدورهم.

    نقل جدّي خلال نشاطه الصحفي أخباراً كثيرة عن ثورة حمص وأحوالها، كما جمع عشرات القصص مما قرأ وسمع وشاهد ومما عمل أثناء نشاطه وعمله الوطني، وبقي يكتب عن الثورات العديدة التي قامت ضد الفرنسيين في صباه وشبابه، وأرّخها وكتب عنها الكثير بعد الاستقلال في مختلف الجرائد والمجلات الوطنية، وكان بعد تقاعده حريصاً على جمع تلك القصص في كتاب صدر عام 1983 تحت عنوان “رجال من بلدي” إذ كان يخشى أن تنسى الناس أولئك الأبطال الذين كانوا السبب الحقيقي في الاستقلال، والشعلة التي وقفت في وجه المستعمرين.

    تقاطعت شخصية “الصحفي سليم” بشكل خاص مع شخصية جدّي بشكل كبير، وتشابهت قصص أبطال المسلسل “تاج – الصابوني – أبو عامر – صبحي – أخت تاج وبناتها – رياض …الخ”، مع قصص كنت قد قرأت ما شابهها في “رجال من بلدي”، وقد حمل المسلسل في حلقته النهائية رسائل جعلتني أقاطع وأقارن تلك القصص بعضها ببعض فمثلما كان تاج كان خيرو الشهلة، ومثلما كان الصابوني كان نظير النشيواتي، مثلما كان أبو عامر كان هناك نديم الوفائي، ومثلما كانت أخت تاج وبناتها كانت أم خيرو وأخت نظير …الخ

    رجال من بلدي
    رجال من بلدي

    أبطالٌ شعبيين يقاومون الاحتلال

    لقد ثار الشعب السوري في مناطق عديدة في وجه الفرنسيين بما يزيد عن 35 ثورة لعل أبرز من وثقها ووثق رجالاتها أدهم آل جندي في كتابه “تاريخ الثورات السورية” في الستينيات، إضافة إلى تجارب عديدة قام بها كتّاب مغامرون محليّون وكتاب وطنيين غيورين، ومما لا شك فيه أن كاتب مسلسل “تاج” الأستاذ عمر أبو سعدة قد بذل مجهوداً كبيراً في نسج قصة هذا المسلسل ولا بد أنه بحث في مصادر كثيرة وقراً وثائق وطالع كتباً عديدة وجعل لها حبكة درامية وصفها البعض بالمبالغات وحاول آخرون أن يتصيدوا بها أخطاء تتعلق تارة بالديكور وتارة في سياقات سياسية.

    وأنا إذ أروي هذه المقارنات والتقاطعات لا أقصد أن قصص “رجال من بلدي” هي قصص المسلسل، بل أعتقد أن “رجال من بلدي” ليس من بين المصادر التي بحث بها الكاتب لأن الكتاب لم يستطع الخروج من محليّته في ذاكرة مدينة حمص، على الرغم من وصوله إلى بعض المكتبات الوطنية والجامعية الكبرى التي تقتني كل ما له علاقة بالتراجم والسير والمؤّرخات.

    إن تاريخنا يذخر بمئات القصص والروايات عن أبطال شعبيين كان لهم أدواراً حاسمة في مقاومة الاحتلال أو في حياة البلاد الوطنية والسياسية بكافة مراحلها، لكنها قد تكون غير مناسبة لعرضها درامياً، لذلك يلجأ الكتاب عادة إلى كتابة سيرة بطل افتراضيّ لضرورات درامية بحتة، فيأخذون من عدة مصادر عديدة ويبنون عليها شخصية العمل، وهو ما قام به عمر أبو سعدة في شخصية تاج الحمّال.

    وقد سبق عمر أبو سعدة كتاب كثيرون قاموا ببناء شخصيات افتراضية تقوم عليها أعمالهم الدرامية، مما يجعلك تتساءل أثناء متابعتك لتلك الأعمال فيما إذا كانت هذه الشخصية حقيقية أم لا، كشخصية “درغام صانع الفخار” في مسلسل “أيام الغضب” 1996، وعائلة “القناديلي” في “حمام القيشاني” وشخصية “إسماعيل الدرويش” في مسلسل “أخوة التراب” 1994 ، حيث سبق  لي أن سألت الأستاذ حسن م يوسف قبل سنوات بعيدة عن حقيقة تلك الشخصية ليقول لي أنها شخصية افتراضية قام ببنائها وصياغتها مما سمع من قصص جده وأعمامه ووالده، مردفاً بأنه لا يمكن رواية التاريخ من خلال الدراما دون وجود شخصيات افتراضية تستند عليها الحبكة الدرامية للعمل.

    الرواية الدرامية والتوثيق التاريخي في مسلسل “تاج”

    وعلى الرغم من محاولة العمل الابتعاد عن السياقات المباشرة للحياة  السياسية التي كانت تتواجد في دمشق آنذاك لصالح إبراز قصص البطولة الشعبية في الجلاء ، وتغييب شخصيات تاريخية بحالها لصالح إبراز الرئيس والزعيم الوطني شكري القوتلي الذي التف حوله السوريون كرمز لحالة النضال والجلاء  وكزعيم للكتلة الوطنية التي كانت التيار السياسي الأبرز في تلك الحقبة والتي التف حولها الشعب إلى جانب الأحزاب الوطنية الأخرى، حيث قدمه المسلسل بوجهه الحقيقي من خلال تقنية الذكاء الاصطناعي وهي سابقة في الأعمال الدرامية العربية.

    الرئيس شكري القوتلي كما بدا في مسلسل تاج

     كان يمكن للعمل أن يكون أكثر تكاملاً لو أظهر شخصيات سياسية أو اجتماعية حقيقية أخرى، إذ لا يمكن عرض الحياة السياسية التي سبقت الجلاء دونما التطرق لشخصيات تاريخية سياسية بعينها  كانت تدور بفلك السياسة السورية آنذاك كشخصيتي الزعيمين سعد الله الجابري و جميل مردم بك فقد كان الأول رئيساً للبرلمان الذي جرى توثيق قصفه والاعتداء عليه، بينما كان الثاني مدعواً لجلسة استماع حول آخر التطورات المتعلقة بالمفاوضات مع فرنسا في البرلمان في ذات اليوم الذي قُصف فيه البرلمان ولم يستطع الحضور.

    كذلك كان يمكن استضافة شخصية الزعيم فخري البارودي الذي كان من أبرز وجوه مدينة دمشق ومؤسس القمصان الحديدية التي تناولها المسلسل، إضافة لقيادته للمقاومة الشعبية داخل الحارات والأحياء الدمشقية في فترة الأحداث التي شهدها المسلسل.

    لكن الكاتب عمر أبو سعدة أراد أن تكون الرواية مستندة كلياً إلى أبطال شعبيين افتراضيين، كشخصية هشام الذي التحق بالدرك واستشهد مع حامية البرلمان أثناء القصف الفرنسي مع العلم بأنه لا يوجد أي شهيد من شهداء البرلمان الحقيقيين يحمل اسم هشام،  ربما لألا يغرق في تفاصيل السير الذاتية الحقيقية لشخوص الرواية الحقيقيين، وبهدف إثارة الدهشة وبناء السياقات الدرامية، وهو أعلم بذلك.

    الضرورة التاريخية لتوثيق البطولات الوطنية

    لقد قدّم مسلسل “تاج” وللمرة الأولى في تاريخ الدراما والفنون البصرية توثيقاً حقيقياً للسنوات والشهور التي سبقت الجلاء، وحادثة قصف البرلمان، وعن الحياة السياسية والاجتماعية لمدينة دمشق في تلك الحقبة، وقدم مشهداً بصرياً  مدهشاً جعلنا نطالب بالمزيد من مثل هذه الأعمال والملاحم.

    وإذا كانت اتجاهات الدراما اليوم ليست بصالح هذا النمط من الأعمال، إلا أن المغامرة الملحمية المتمثلة بهذا المسلسل والتي سارت بها الشركة المنتجة مع المخرج المبدع سامر برقاوي الذي امتهن في سنواته الأخيرة مهمة توثيق حوادث لم يسبقه أحد إليها، برفقة كاتب وباحث  متمكن كعمر أبو سعدة بدا في ثاني أعماله في الدراما التلفزيونية أنه على رهان رابح في توثيق محطات هامة من تاريخ البلاد، والذي لم تتعلمه الأجيال إلا بشكل باهت وسريع في مناهج الدراسة، ولم يجرؤ أحد على تقديمه في صيغ درامية ملحمية إلا مرة واحدة كل عشر سنوات، وبالتالي من الممكن وضع هذا العمل بالمكان الذي ينبغي على كل الأجيال أن تشاهده وتتابعه.

    قدّم المسلسل عدة رسائل قوية وسياسية عن مستقبل البلاد في حوارات صيغت بعناية واختيرت عباراتها باهتمام بالغ، لينتهي  المسلسل بتوثيق الجلاء ومسيرته، واعتزال بطل العمل “تاج الحمّال” الحياة العامة بشكل كليّ وابتعاده عن السياسة، وانشغاله بأعماله رافضاً أيما رفض رواية أي شيء عما ناضل من أجله سراً لسنوات تحت اسم “المقص”، منحيّاً نفسه تماماً عن أي صراعات سياسية لأنه شعر أن ما حَلُم به هو وأصدقاؤه من أبطال الاستقلال لم يتحقق، وبأنهم بعد أن ملئوا الدنيا وشغلوا الناس ببطولاتهم  وقصصهم قبل الجلاء، تلاشوا هم وقصصهم من ذاكرة الناس  فيما بعده وكأنها لم تحدث.

    الحوار الأخير بين تاج الحمال والصحفي سليم
    الحوار الأخير بين تاج الحمال والصحفي سليم

    بالعودة لحوار المسلسل الأخير الذي دار بين “تاج الحمال” و”الصحفي سليم” حول ضرورة توثيق وكتابة سيرته وسيرة النضال ضد الاستعمار، إذ كان موقف “تاج” أنه يريد أن ينسى و امنع عن التحدث  بأي شيء رغم إصرار “سليم”،  لأن كان يعتقد أن الناس لا تريد أن تسمع ولا أن تتذكر ليجيبه بنفي ذلك عن جميع الناس، وبالعودة للواقع فإنني أعتقد أن الجمهور اليوم يقف إلى جانب “سليم” في أن هذه القصص يجب أن تكتب لتروى، ومهما كان نسيان الناس ونكرانهم لتلك البطولات، إلا أن هناك أجيال يجب أن تعرف وتتعلّم ، ولطالما وُجد كتاب وصحفيون ومغامرون مستعدون لتوثيق وكتابة الروايات الشفهية للأبطال الشعبيين، ومبدعون قادرون على تحويلها لأعمال سمعية وبصرية، لطالما استطعنا كتابة سرديتنا وقصتنا السورية، وحفظنا الذاكرة الوطنية من الضياع، وتركناها للأجيال القادمة، وهو ما ينبغي علينا فعله اليوم، وفي كل يوم.

  • عندما تتحول القصة الشعبية والشائعة إلى مصدر لحدث تاريخي هام!

    عندما تتحول القصة الشعبية والشائعة إلى مصدر لحدث تاريخي هام!

    .قبل أسابيع قليلة انتشر خبر على لسان صحيفة “نيويورك تايمز” الشهيرة مفاده بأن دولة الكيان الصهيوني تقوم ببناء مخيمات للاجئين اللبنانيين الذين لا بد وأنهم – نتيجة للأوضاع الاقتصادية المهترئة في لبنان، ونتيجة للانهيار الاجتماعي الحاصل هناك – سيفرون إلى شمال فلسطين المحتلّة هاربين من الواقع الكارثي الموجود في بلدهم الأم. وحصل أن تناقل ناشطون هذا الخبر بكثافة عبر مجموعات “الواتسآب” وفي صفحات “الفيسبوك”، وأجريت حوله نقاشات على منصة “كلوب هاوس”، وذهب بعض المحللين الاستراتيجيين لتداوله عبر لقاءاتهم الإعلامية على الفضائيات. لم يكلّف أحدٌ ممن نشر الخبر وتداوله نفسه عناء أن يتصفح موقع “النيويورك تايمز” نفسه ويطالع الخبر الذي لا وجود له أصلاً.

    ظاهرة راسخة

    هذه الظاهرة تكاد تكون عادة راسخة في عالمنا العربي، وهي تحصل في كل يوم وفي كل ساعة عندما يقوم أحدهم باستقبال خبر أو منشور ويقوم بإعادة توجيهه لثلة من الأصدقاء، فيخرج أحد علينا ليقول بأن حصل على معلومة من مصدر موثوق. وقد حصل أنني ذات يوم كنت حاضراً في ندوة حوارية حول السياسة الخارجية السورية والأزمة السورية لشخصية مخضرمة معروفة في الوسط السياسي والإعلامي، وتناولت تلك الشخصية في معرض كلامها لقاءاً حديثاً أجراه “هنري كسينجر” أشهر وزراء الخارجية الأمريكيين السابقين وعراب السياسة الخارجية الأمريكية لسنوات مع مجلة “نيويوركر” الأمريكية، قائلاً على لسان “كسنجر” أشياء لا تدخل بعقل قارئ نهم أو باحث مختص في شؤون العلاقات الدولية، ولا تنطلي على من قرأ سيرته وكتبه وبحث فيها. كان مصدر تلك المعلومات التي وردت على لسان المحاضر من منشور تم تداوله عبر التواصل الاجتماعي، وكان فيها الكثير من المديح للقيادة السورية والسياسة الخارجية في سورية، الشيء الذي لا يمكن أن يقال على لسان ثعلب مثل “كيسنجر”.

    أثناء تلك الندوة قررت أن أناقش ذلك المحاضر بما قال، وقبل أخذ الإذن في النقاش تناولت هاتفي المحمول وتصفحت موقع مجلة “نيويوركر” ليتبين ألا وجود لأي مما ذكر في الحديث، والأكثر من ذلك أنه في ذلك الوقت لم يكن “كيسنجر” ذات نفسه قد أجرى أي لقاء أو مقابلة أو أعطى أي تصريح لتلك المجلة العريقة منذ سنوات بعيدة، كنت متأكداً من ذلك قبل أن أبحث لكن الأمر كان يستحق المغامرة!! فناقشت تلك الشخصية بأن جزء مما ورد على لسانه لا أصل له، فارتبك وكان رده بأنه حتى ولو لم يكن كلامه صحيحاً فإن ما قيل هو حقائق دامغة!

    مذكرات السياسيين مسارح للخيال

    بمثل هذه اللقاءات والمعلومات الملفقة والمستقاة من مصادر غير دقيقة تنتشر الأخبار الزائفة والإشاعات والمقولات التي لا أصل لها، ويتداولها الناس كما يتداولون القصص والنوادر الشعبية، فعلى سبيل المثال، وفي غمرة الدفق الكثيف القادم من وسائل التواصل الاجتماعي، قد نقرأ منشوراً عن معلومات وردت في مذكرات “بل كلنتون” أو مذكرات زوجته “هيلاري” وهي غير موجودة أصلاً أو أتت في سياق مختلف تماماً في تلك المذكرات عما يبتغيه مؤلفها أو من يحدث الناس فيها، والمشكلة تكمن في أن المذكرات تلك موجودة وفي متناول اليد ليست بعيدة المنال، لكن لا يكلّف أحد ما  عناء نفسه التأكد منها قبل أن يقوم بالضغط على زر “مشاركة” ! لغياب الوعي من جهة ولأن الناشر الأول قد يكون موقعاً رصيناً أو صفحة الكترونية أو حتى وسيلة إعلام محترمة أو شخصيات عامة تعمل في الشأن العام قامت ببناء مصداقية لدى الجمهور، فوقعت ضحية تضليل ما، ونسيت أو ربما تناست أن تتقصى صحة المعلومة، لأن المعلومة بحد ذاتها تخدم قضية الشخص أو المنصة الناشرة.

    وثيقة لا وجود لها

    وإذا أردنا التعمق في الموضوع بشكل أكبر باحثين عن أمثلة  لوجدنا أن واحدة من أشهر الوثائق التي تبناها كثرٌ من المفكرين الذين بحثوا وكتبوا بتاريخ القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني وتبنتها تيارات وأحزاب ومنظمات في أدبياتهاوهي ما تعرف بـوثيقة “كامبل بنرمان” هي وثيقة لا وجود لها بشكل نصّي أو وثائقي أو كمصدر علمّي موثق كما هو معروف، فتلك الوثيقة “السرية” قيل أنه تم تبنيها في المؤتمر الاستعماري الامبريالي البريطاني عام 1907، وبني عليها الكثير  من الروايات والكتب والأبحاث والأعمال الأكاديمية، وكانت أينما وجدت في عمل أكاديمي أو كتاب أو دراسة تُحال إلى مصدر في كتاب أو بحث سبقه، ولم يشر أحد إلى الوثيقة الأصلية، على الرغم من أنالمعاني والدلالات والمعلومات المنسوبة إليها كانت قد وردت في كثير من الأدبيات والنصوص والمذكرات الصهيونية والبريطانية الاستعمارية آنذاك، لكن لا وجود لهذه الوثيقة في أي أرشيف أو مكتبة وثائق بريطانية أو غربية  ولا ذكر لها أو لأي إشارة تخصها  حتى في كتب السير والمذكرات ولا في الصحف الصادرة آنذاك . هذه النتيجة حصل عليها الباحث والمفكر أنيس صايغ، الذي بذل مجهوداً كبيراً للكشف عن أصل وأساس هذه الوثيقة وأورد تفاصيل رحلة البحث عن أصل هذه الوثيقة في مذكراته، حيث توصّل بعد رحلة شاقّة من البحث من لقاء أول من تحدّث عن هذه الوثيقة في كتاب منشور وقد قال له أنه التقى رجلاً هندي الجنسية على الطائرة في الطريق من فلسطين إلى لندن، وروى له عن الوثيقة وعن المؤتمر الاستعماري الامبريالي الذي حضره عشرات العلماء والمفكرين والسياسيين واتفقوا على إقامة دولة لليهود وتقسيم الدول العربية، وانتهى اللقاء بتبني ذلك الكاتب للرواية دون أن يزوده الرجل الهندي بأي مرجع أصلي للوثيقة أو المقررات!. بطبيعة الحال لا ننفي في هذا المقال حقيقة ما ورد فيما يسمى “وثيقة كامبل بنرمان”، وقد أثبتت الأيام صحة محتوى ما يشاع أنه ورد فيها، لكن عدم وجود دليل محسوس يجعل من عملية البحث التاريخي ألعوبة، ويجعل من أبحاثنا التاريخية مجرد حلقات بحث لهواة يحملون أسماء كبيرة في تأصيل التاريخ والبحث العلمي التاريخي.

    سوالف شعبية من صفحات التاريخ

    وإذا ابتعدنا عن التاريخ المتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، واتجهنا إلى تاريخنا الحديث المليء بنوادر وقصص من هذا القبيل، فسنجد عشرات القصص المتداولة وغير المسندة إلى أي سند صحيح أو وثيقة على الرغم من وجود ما يدحض وجودها جملة وتفصيلاً عدا عن أنها بعيدة عن المنطق، فعلى سبيل المثال هناك قصة متداولة وتروى بكثرة في الصحف والكتب والأبحاث وعلى صفحات التواصل الاجتماعي حول دخول زيارة الجنرال “غورو” لقبر صلاح الدين الأيوبي عند دخوله إلى دمشق قائلاً له “هاقد عدنا يا صلاح الدين”، هذه القصة على الرغم من إمكانية حصولها وربما تكون قد حصلت، لكن لا يوجد لها أي سند في الكتب أو الصحف أو حتى في التأريخ الشفوي الموجود من تلك المرحلة، إنما المرة الوحيدة التي وردت فيها معلومة مشابهة كانت في مذكرات ضابط فرنسي لم يذكر بها “غورو” أصلاً، مع العلم بأن “غورو” كان رجل بروبغندا  ومصور هاوٍ يقوم بالتقاط الصور أينما حلّ، ولا وجود لصورة له في ضريح صلاح الدين !!  وهنا نحن لا ندافع عنه ولا ندحض المعلومة بقدر ما نقول إن هذه المعلومات المنسوبة له غير موثقة وغير دقيقة. وهناك العشرات من السوالف الشعبية والقصص كقصة “غورو” عن أحداث وزعماء وطنيين وتفاصيل ومعارك بما فيها روايات مفصّلة عن الاستقلال تحولت إلى تاريخ يرويه الناس ويتم تداولها على أنها جزء أساسي من التاريخ الحديث والمعاصر وهي قصص لا تأصيل لها من التاريخ والحديث والمعاصر، ولا دليل على حصولها يتناقلها الناس جيلاً بعد جيل، ومن أقل الناس علماً حتى أعظمهم مكانة علميّة وبحثية، وهذا الأمر يندرج  بشكل أكبر على التاريخ القديم والوسيط والحديث أيضاً.

    كي لا تتحول الشائعات إلى حقائق تاريخية

    نروي هذه الأمثلة  لنقول بأن انتشار الشائعات والأخبار والأحداث المغلوطة قد يجعلها حقائق تاريخي، وهذه دروس ينبغي أن نتعلم منها ونعيها تماماً لأنه من المعيب ونحن نعيش بهذا العصر أمام ما نتعرض له اليوم من دفق آت من الانترنت ومجتمع المعلومات المفتوح أن تمر قصصاً وروايات غير صحيحة وترسخ على أنها أحداث تاريخية، وبالتالي نحن نحتاج إلى وعي رقمي من نوع آخر، فالمصادر موجودة والبحث للتأكد عن صحة المعلومة بات بسيطاً وسهلاً وليس بمتناول اليد فقط، بل باليد من خلال الأجهزة الجوالة والحواسب اللوحية وغيرها من الأدوات الذكية التي تحيط بنا ونتعامل معها على مدار الساعة والدقيقة. وعندما نتحدث عن الجيل الرابع للحروب وعن الشائعات وطرق دحضها علينا أن نعي بأن مكافحة الأخبار المغلوطة هو واجب على الأكاديميين والباحثين وناشطي الشأن العام والمؤثرين الذي يعتلون المنابر ويخاطبون الناس ويوجهون الرأي العام، لا أن يتناقلوها دون التأكد منها وبالتالي يرسخوها كحقائق وأحداث تاريخية يتداولها العامة، وعلى المؤسسات الإعلامية  العمل على تثقيف الناس بمصادر المعلومات الأصلية، فمقال مترجم على موقع غير مشهور، لا يعني أن المقال موجود في مصدره الأم المذكور أصلاً، ومقال آخر يحتوي على معلومات مصدرها موقع “ويكيبيديا” ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً ومؤصلاً ومسنداً لأنه موقع مفتوح يحرره أي شخص كان،  وكلام صريح عن مؤتمر مبهم هنا أو اجتماع سري هناك دون إثبات أو وثيقة أصلية لا ينفي ولا يثبت قيام الاجتماع أو المؤتمر، لكن لا يجعل من هذا الاجتماع أو المؤتمر حدثاً تاريخياً يبنى عليه وعي جمعيّ للجمهور، وهو ما صار عادة أصيلة في إعلامنا العربي وعلى لسان مؤثرينا في السياسة والاقتصاد والفن والاجتماع، وهو أمر في غاية الخطورة والقبح حتى وإن كانت المعلومات غير الصحيحة أو غير الموثقة أو غير المسندة تخدم قضايانا وتتحدث باسمنا.


    ،ُشر في عدد شهر آب 2021 من صحيفة الخندق

  • إعلامُ العصر الجديد: تشويهٌ على وقع الحداثة

    إعلامُ العصر الجديد: تشويهٌ على وقع الحداثة

    قبل أسابيع قليلة، أوصلني البحثُ عن شيءٍ ما على الشبكات الاجتماعيّة إلى صفحةِ ناشطةٍ إعلاميّةٍ سوريّةٍ مقيمةٍ في أوروبا، تبثّ الفيديوهات المباشرة عند كلّ استحقاقٍ ومناسبة. كانت تلك الناشطة، الشهيرةُ بإثارتها للجدل بين الحين والآخر، قد نشرتْ شريطَ فيديو تحكي فيه موقفَها من قضيّة الجولان العربيّ السوريّ المحتلّ، وذلك بمناسبة إعلان الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب اعترافَ الولايات المتحدة بسيادة الكيان الصهيونيّ على الجولان. وقد كان وقعُ الكلام الذي تفوّهتْ به ثقيلًا على مسمعي، إذ قامت بتعريف الجولان المحتلّ بأنّه “منطقة جغرافيّة تقع بين إسرائيل وسوريّة، وهي أراضٍ متنازَعٌ عليها منذ زمنٍ بعيد، وملْكيّةُ أراضي هذه المنطقة مجهولةُ العائديّة، تحتوي على منطقةٍ منزوعةِ السلاح، وأخرى تحت السيادة الإسرائيليّة.”[1]

    ليست المشكلة في الناشطة نفسها، بل في الكلام الذي ورد على لسانها في هذا الفيديو، وفي فيديو آخر يتحدّث عن “إسرائيل” بكثيرٍ من السطحيّة وعشراتِ المغالطات والأضاليل.[2] ومَن يتأمّل العبارةَ أعلاه لا يجد نسفًا تامًّا للحقيقة فحسب، بل يجد أيضًا تماهيًا مطلقًا مع رواياتٍ إسرائيليّةٍ عن هذه القضيّة وغيرها من القضايا. ويصل إعجابُها حدَّ تصريحها بأنّها تتمنّى الحصولَ على الجنسيّة الإسرائيليّة، والذهابَ للعيش هناك ربّما.

    لكنْ، ما علاقةُ ما قامت به تلك الناشطةُ بالإعلام ووسائله؟ ولمَ لا يكونُ سلوكُها سلوكًا فرديًّا لا يمثِّل إلّا قلّةً قليلةً، وينمّ عن جهلٍ وضحالةٍ وفراغ، لا عن موقفٍ مبنيٍّ على معلومات دقيقة وأصليّة؟

    تشير الأرقامُ الواضحة في فيسبوك ويوتيوب أنّ مجموعَ مشاهَدات الفيديوهيْن الآنفَي الذكر أكثرُ من خمسين ألف مشاهَدة، عدا عن عدد متابعين لا يقلّ عن 120 ألف متابع. وواقعُ الأمر أنّ هذا هو عصرُ الإعلام الجديد، الناتج من ثورة المعلومات التي تضخّمتْ خلال السنوات القليلة الماضية، ورافقت “الربيعَ العربيَّ” في كلّ تفاصيله. ونجاحُ هذا النمط من الإعلام كان مرهونًا دائمًا بأفرادٍ يحملون خطابًا منفلتًا لا ضوابطَ له، وبفضاءٍ مفتوحٍ لكلّ فئات الجمهور.

    هذا عصرُ الإعلا م الجديد، الناتج من ثورة المعلومات
    هذا عصرُ الإعلام الجديد، الناتج من ثورة المعلومات

    تطبيعٌ بالمجّان

    لم تكن تلك الناشطةُ هي الوحيدةَ التي تتحدّث بهذه السطحيّة عن الصراع العربيّ – الإسرائيليّ. فالمدوَّنات العربيّة، وقنواتُ اليوتيوب، وصفحاتُ الفيسبوك، مليئةٌ بالمقالات ومقاطعِ الفيديو والصورِ والمعلوماتِ التي تحمل مغالطاتٍ كبرى عن هذا الصراع. وهي تروي ما تسمّيه “حقائق،” ولكنّها في الواقع قائمةٌ على رواياتٍ لا أصلَ لها، أو من خلال صفحاتٍ من كتبٍ أو مذكّرات لأشخاصٍ دون غيرهم، مجتزأةٍ أو منقوصة. وبات من السهل على المتابع أن يقرأ مقالًا في إحدى أشهر الخدمات الإعلاميّة العربيّة، بقلم كاتب عربيّ،[3] يمدح فيها حالةَ التطوّر العلميّ الهائل في “اسرائيل،” واهتمامَها بالعلم، مقابلَ تجهيل الحكومات العربيّة لشعوبها على مدى عشرات الأعوام التي مضت، ناسفًا كلَّ العوامل التي ساهمتْ في الوصول إلى هذه النتائج، وعلى رأس هذه العوامل: الاستعمارُ والاحتلالُ والنهبُ الرأسماليّ.

    هذا ناهيكم بالصفحات الإسرائيليّة الوقحة، كصفحة إسرائيل بالعربيّة، أو صفحة أفيخاي أدرعي، اللتيْن تبثّان سمومًا بأشكالٍ ملوّنةٍ وجذّابة جعلتْ عشراتِ الألوف من متابعيها العرب يتجاوبون معها ويشكّلون حالةً من التطبيع، سببُه قلّةُ المعرفة أو الفضولُ… أو الاقتناعُ بما تبثّه هذه الصفحاتُ فعلًا – – وهذا هو الأخطر. ويأتي هذا الأمر في ظلّ غياب مشروع إعلاميّ عربيّ مضادّ، متفرّغٍ للتصدّي لهذه الموجات، الهادفةِ إلى إحداث تغييرٍ في عقول الأجيال الجديدة، وتشكيل وعيٍ قائمٍ على التطبيع المجّانيّ بشكلٍ تامّ.

    ولم يقتصر هذا الأمر على المواقع والصفحات الإلكترونيّة، بل تعدّاه إلى الفضائيّات العربيّة. فهذه باتت ــ تحت وطأة الصراعات البينيّة العربيّة، والصراع مع إيران ــ تُغّير في خطابها الإعلاميّ تجاه المسألة الفلسطينيّة وقضايا الصراع مع العدوّ الإسرائيليّ. ويتجلّى هذا الأمر، مثلًا، في استضافة مسؤولين ومحلّلين إسرائيليين بشكلٍ دائم على بعض الفضائيّات الإخباريّة العربيّة، مثل قناة الجزيرة. كما بتنا نسمع على تلك الشاشات محلِّلين عربًا يهلّلون للإسرائيليين.[4]

    تمييعُ المفاهيم

    واقعُ الأمر أنّ تغييرَ ذهنيّة المتلقّي تجاه القضايا الكبرى، كالصراع العربيّ – الصهيونيّ أو الصراع مع إيران وتركيا أو حتّى صراع الشعوب مع الأنظمة، لم تأتِ مباشرةً من خلال هذه القضايا نفسها. فلقد جرى استثمارُ العديد من قنوات الإعلام الجديد على يد السفارات والمنظّمات غير الحكوميّة، وذلك في شكل حملاتٍ إلكترونيّة تُطاول مفاهيمَ مثل “حقوق الإنسان” و”السلام” و”اللاعنف” و”حقوق الأقليّات” و”العيش المشترك” و”المواطنة العالميّة،” وغيرها من المفاهيم، النبيلةِ الظاهر، لكنها بمثابة “حقٍّ يُراد به باطل.”

    هكذا مُيّعتْ هذه المفاهيمُ والمصطلحات، وسواها، إعلاميًّا بما يتناسب مع سياسة المموِّل. وهذا الأخير لم يكتفِ بتقديم المال، بل قدّم أيضًا التدريباتِ اللازمةَ لأصحاب هذه الحملات، وقام بإلزامهم بأطرٍ عامّةٍ لإطلاق هذه المفاهيم والعمل عليها. وقد تسلّلتْ هذه المفاهيمُ إلى الوعي الجمعيّ الشبابيّ العربيّ، وباتت مقاربةُ “السلام” أو “اللاعنف” على سبيل المثال تنطبق على الصراع العربيّ – الصهيونيّ. كما بات الحديثُ عن “حقوق الأقلّيّات والفئات المستضعَفة” بابًا واسعًا يمكن الولوجُ منه إلى إشعال الثورات، وتغييرِ الأنظمة، وإحداثِ القلاقل. وجرى حرفُ بوصلةِ الصراع بالكامل لدى شرائح واسعة من الشباب العربيّ.

    تحطيمُ الرموز والثوابت

    ولم تَسْلم كثيرٌ من الرموز والثوابت، التي كانت راسخةً في الوعي الجمعيّ العربيّ، من النَّسْف، وذلك من خلال برامجَ أو تقاريرَ أو مقالات، هنا وهناك. وبجولةٍ صغيرةٍ اليوم في وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو في بعض المواقع الجديدة، ستقرأ عشراتِ المقالات التي تنال من قياداتٍ عربيّةٍ محدّدة، وتمدح أخرى. ويختلف الموضوعُ وتختلف الشخصيّةُ المستهدَفة بحسب توجّه الوسيلة وداعميها، لكنّ الواضح هو نسفُ القيادات التاريخيّة التي أحدثت فرقًا في الصراع مع الولايات المتحدة و/أو “إسرائيل” منذ بدء الصراع حتى اليوم. كما لم تَسْلم الأفكارُ القوميّةُ وتجاربُ اليسار العربيّ من الهجوم الكاسح، وكذلك التجربة الخاصّة بالثورة الفلسطينيّة أو تجربة المقاومة الوطنيّة في لبنان.

    وفي هذا الأمر، لا ننفي الحاجةَ إلى القيام بمراجعة تاريخيّة ونقديّة واسعة للموروث التاريخيّ لبلادنا. لكنّ ما يجري اليوم في “الإعلام الجديد” المذكور يهدف إلى تعويم تجارب الغرب وحدها على أنّها تجاربُ ناجحة، وإبعادِ أيّ عاملٍ تآمريّ غربيّ أو إسرائيليّ عن سياق الحدث التاريخيّ العربيّ، وإظهارِ أنّ المشكلة الحقيقيّة ماثلة في الشعوب العربية وقياداتها و”العقل العربيّ.”

    أفكار مغلوطة ومدسوسة

    كثيرة هي الأفكار الغريبة التي نقرأها كلَّ يوم في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتهدف إلى إثارة القلاقل الطائفيّة والعرقيّة من جهة، وتغييرِ الأفكار الراسخة في المجتمعات العربيّة حول عشرات القضايا من جهةٍ أخرى. ولدى البحث عن مصادر هذه الأفكار، وجدناها على شاكلة مقالات في مواقع إلكترونيّة عربيّة، مجهولة الهويّة والتابعيّة، ظهرتْ في السنوات الماضية، وتتبنّى فكرةَ التدوين الجماعيّ بهدف رفع الوعي لدى الشعوب العربيّة، ورفع سويّة المحتوى العربي على شبكة الانترنت كما تدّعي في بيانات التعريف الخاصّة بها، من دون أيّ إشارة إلى إدارة التحرير، أو الدولة التي تصدر منها، أو جنسيّة ناشري هذه المواقع.[5] هذه المواقع تضمّ كتّابًا ومدوّنين شبابًا من جميع الدول العربيّة. وعددٌ لا بأس به منهم لا يعرف أصلًا مَن يدير هذه المواقع، لكنّ ما أوصلهم إليها شغفُهم في الكتابة وبحثُهم عن منصّاتٍ تنشر أفكارَهم. وبتحليل آليّة عمل هذه المواقع، تبيّن أنّها تعمل باستراتيجيّة تمرير مقال أو مقالين أسبوعيًّا يروّجان لأفكار غريبةٍ وصادمة، مقابل عشرات المقالات الثقافيّة والعلميّة المنوَّعة والتاريخيّة، العاديّة التي تُنشر يوميًّا، وتخاطب جميعَ الشباب العربيّ.

    كثيرة هي الأفكار التي نقرأها في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتهدف إلى إثارة القلاقل

     المال يتحدّث

    هناك عدّة عوامل تحدِّد توجّهاتِ الإعلام العربيّ الجديد، ومنها مصادرُ التبنّي والتمويل. فتمويلُ هذا الإعلام اليوم، بنسبته الكبرى، يُنسب إلى قطر، التي تحاول ضمَّ أكبر شريحة من الشباب المؤثِّر تحت عباءة مشاريع “الإعلام الجديد.” وقد صرفتْ قطر أموالًا طائلةً في جذب الناشطين والإعلاميين الشباب لتأسيس منصّاتٍ مختلفةٍ تتيح هامشًا واسعًا من الحرّية، منها ما هو شخصيّ ومنها ما هو جماعيّ. وتصرّ قطر على أنّها راعي “ثورات الربيع العربيّ.” ومنصّاتُ الإعلام الجديد التي بدأتْ قطر تمويلَها منذ بدء هذا “الربيع” نتاجٌ لهذه الثورات.[6]

    وبينما لم تستطع السعوديّة أو الإمارات تأسيسَ مؤسّسات إعلام جديد توازي وتنافس ما تقوم به قطر، فإنّهما حشدتا أكبرَ جبهةٍ من الإعلام التقليديّ في وجه قطر وإيران، وقد دُفعت الملايينُ من الأموال السعوديّة للسيطرة على نسبة كبيرة من الإعلام المصريّ.[7] ومع اهتمام السعوديّة والإمارات بالإعلام التقليديّ، فإنّ ذلك لم يمنعْهما من شراء العشرات من المواقع والصحف الإلكترونيّة وتمويلها.[8] وهذه المواقع تلعب وفق السياسة الرسميّة، السعوديّة والإماراتيّة، دورًا رياديًّا في محاولات التخفيف من حدّة الصراع مع “اسرائيل.”

    على أنّ المؤسّسات المانحة الأوروبيّة والأمريكيّة، الحكوميّةَ وغيرَ الحكوميّة، تبقى اللاعبَ الأكبرَ في تمويل مبادرات الشباب في الإعلام الجديد. ونستطيع اليوم أن نلاحظَ تضاعفَ أعداد وسائل الإعلام الالكترونيّ، من صحف ومجلّات الكترونّية، وإذاعاتٍ وتلفزيوناتٍ تبثّ عبر الانترنت، إضافةً إلى المبادرات الإعلاميّة الثقافيّة. بعضُها يصرّح عن مموّليه، وبعضُها لا يصرِّح.

    هذه الوسائل والمنصّات أُسّستْ بدافع خلق لغةٍ إعلاميّةٍ بديلةٍ للإعلام الرسميّ العربيّ، أو للإعلام الموالي للسلطات العربيّة. وهي تهدف – في ظاهرها – إلى رفع سقوف القيود على حريّة التفكير والتعبير، والترويج لليبراليّة سياسيّة اقتصاديّة اجتماعيّة. لكنّها – في باطنها – تستهدف تغييرَ الوعي الجمعيّ لدى الشباب العربيّ، وتمريرَ أفكار جديدة تنسف الثوابتَ والموروثات والرموزَ، بشكلٍ ناعمٍ وغير مباشر، يَخدم أجندةَ المموِّل.

    ويكفي أن تتصفّح موقعَ أيّ مؤسّسة مانحة أوروبيّة أو أمريكيّة في واسم تقديم “طلبات التمويل” لترى أنّ تصنيفاتٍ مثل “إعلام المواطن” و”الإعلام البديل” و”وسائل الإعلام المستقلّة” واضحةٌ في طلبات التمويل وورشات العمل والزمالات والمنح.[9] وعادةً ما تُوضَع هذه الضوابطُ الفكريّة، ومدوّناتُ السلوك، وآليّاتُ الاستخدام، أثناء التدريبات المرافقة لعمليّات تأسيس هذه المشاريع. وفي غالب الأحيان يُضطر طالبُ التمويل إلى أنْ يوقّع على عقودٍ تحتوي على ضوابطَ وشروطٍ تتعلّق باللغة الإعلاميّة المستخدَمة في هذه الوسائل المستحدَثة بما لا يتعارض مع سياسات المؤسّسات المانحة تلك. وهنا تكمن خطورةُ هذه المشاريع.

    في النهاية

    يتمثّل مستقبلُ الإعلام والصحافة في الإعلام الجديد. كما يُشكّل الجيلُ الناشئ، من اليافعين والشباب، الجيلَ الأكثرَ متابعةً لوسائل التواصل الاجتماعيّ. وما نحتاجه اليوم هو برنامجٌ حقيقيّ وواضح يهدف إلى إنشاء محطّات ومبادرات توجِّه الإعلامَ الجديدَ بطريقةٍ محبّبة، وجذّابة، وذاتِ مغزًى، وفق آليّات تقوم على تحليل مضمون الدفق الحاليّ في وسائل التواصل الاجتماعيّ، والعمل على الاستفادة من ثغراتها، وقطْعِ الطريق على التوجيه الآتي من هذا الدفق، الذي لا يخدم قضايا شعوبنا، ولا يليق بإرثنا التاريخيّ وحضارتنا العريقة.

    نشرت في مجلة الآداب


    [3] بإمكانكم مراجعة حسابات ناشطين مثل عمّار عبد الحميد، أو صاموئيل تادرس، مقدِّمَيْ برنامج عمّار وسام على قناة الحرّة. وبإمكانكم الاطّلاع على آراء تادرس في التفوّق الإسرائيليّ من خلال الرابط: https://bit.ly/2ymZoei

    [5] من المواقع الشهيرة بإثارة الجدل والأفكار المغلوطة موقع دخلك بتعرف وهو منصّة تدوين جماعيّ مجهولة الهويّة والمصدر. https://dkhlak.com/

    [6]  شهدت السنواتُ الأخيرة جملةً من المنصّات الشخصيّة التي لاقت رعايةً قطريّةً، مباشرةً وغير مباشرة، مثل منصّة الدحّيح، التي تبنّتها شبكة الجزيرة، ثمّ منصّة جو شو التي تبنّتها قناةُ العربيّ.

    [9]   على سبيل المثال من الممكن الاطّلاعُ على برنامج مِنَح ما يسمّى “الصندوق الوطني للديمقراطيّة “https://www.ned.org/apply-for-grant/ar/

  • المال والإعلام وتجميل القباحة ..

    المال والإعلام وتجميل القباحة ..

    قبل أشهر خرجت علينا قناة تلفزيونية جديدة اسمها “تلفزيون سوريا”، مدعيّة أنها مخصصة لمخاطبة لكل السوريين، وذلك قبل أن تكشّر عن أنيابها وأنياب كل العاملين فيها بأنها في الحقيقة ليست إلا بوقاً قطرياً موجهاً ضد كل السوريين الذين لم تأتِهم الثورة قبل سبع سنوات !!

    هذه القناة الممولة من سيء الذكر عزمي بشارة، والتي ما هي إلا طفل ممسوخ ولد عن قناة “العربي” التي أنشأتها قطر في لندن قبل أعوام ودخلت كل بيوتنا بألوانها الزاهية وبرامجها اللطيفة !!

    بذات المستوى الجذاب في ظاهره، ولد الطفل الممسوخ المسمى “تلفزيون سوريا” في تركيا من رحم “التلفزيون العربي” ، لنكتشف لاحقاً بأن القناة وكل محتواها لا يهدف إلا إلى الهجوم على كل ما هو “ضد الثورة” …

    إذا علمنا أن تكلفة تأسيس “تلفزيون العربي” في العام الأول له هي 3 مليار دولار فقط دفعتها قطر عداً ونقداً من خلال سيء الذكر عزمي بشارة، فلنتوقع بأن ميزانية “تلفزيون سوريا” التي قد تساوي اٌقل من ذلك بكثير، لكنها ليست أقل من 100 مليون دولار على أقل تقدير!!

    تخيلوا أن 100 مليون دولار هو رقم معد لإخراج كل من أنتج الكون من سفاهة من خلال حفنة برامج ، هناك 8 برامج منها فقط معدة للسباب والشتم والسخرية والمسخرة على كل من هم داخل سورية !! وعلى كل كلمة جامعة تخرج من داخل سورية !! وعلى كل خطاب أو سردية يلقيها أي شخص أكان مسؤولاً أم مواطناً بلا مسؤولية من داخل سورية !! وعلى كل ما ينتج في سورية !! وعلى كل من آمن بسورية !! … ليأتي أنس أزرق وزمرته وزعرانه ويقولون أن تلفزيونهم موجه لكل السوريين ((أضافوا لاحقاً عبارة “عدا القتلة” دون أن يعترفوا فيما إذا كان أبو محمد الجولاني قاتل مثلاً )) ..!!

    دعونا لا ننجر وراء الألوان الزاهية ، والاستديوهات الراقية، والملابس الجميلة، والأفكار الخفيفة، والدعابات اللطيفة .. فوراء الصورة الزاهية ما وراءها من سفاهة وحقد ولؤم !!

    لا نملك حتى الآن تجربة إعلامية وطنية بذات المعايير والمقاييس الإعلامية الزاهية ، لكنه المال يا عزيزي .. والمال يصنع من الجاهل بروفيسوراً، ومن شديدة القبح ملكة جمال !!